أدلة وجود الله 8..دليل الفطرة

04/10/2015| إسلام ويب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أرجع في هذا المقال الذي أختم به هذه السلسلة، إلى الدليل الذي بدأتها به: دليل الفطرة، لتكتمل الحلقة، ويتم المقصود بها!

والفطرة هي: ''الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها، وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهة الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير'' (1).

إن دلالة الفطرة على وجود الله أقوى من أي دليل آخر، علميا كان أو عقليا. فالفطرة هي الأساس التي تبنى عليه المعارف الإنسانية جميعها، وعلى رأسها معرفة الخالق سبحانه. قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها } (الروم:30).
وهذه الفطرة هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم قبل أن يخلقوا، وجعل منه حجة قائمة عليهم، كما قال تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ( الأعراف: 172-173).

ولذلك كان وجود الله من الأمور المركوزة في الفطَر البشرية، فإن كل إنسان يشعر من نفسه بأنّ له ربا وخالقا، ويحس بعظيم الحاجة إليه، فيتجه بيديه وعينيه وقلبه إلى السماء، لطلب الغوث من ربه.

ومن الطريف أن القول بفطرية الاعتقاد بوجود الله ليست خاصة بالمتشرعة من علماء الإسلام، بل هو أمر يقرّ به جماعة من الفلاسفة المعاصرين.

منهم على سبيل المثال الفيلسوف الأمريكي ألفين بلانتنجا '' Alvin Plantinga ''، الذي يصرّ على أن ''الإيمان شعور فطري''، وأن الاعتقاد في وجود الإله مثل الاعتقاد في مفاهيم أساسية أخرى، كالاعتقاد بأن للآخرين عقولا كعقولنا، والاعتقاد في صحة حواسنا، والقول بأن الكل أكبر من الجزء (2).

براهين على صحة دليل الفطرة:

البرهان الأول:
مما يدل على صحة هذا الأصل العظيم: ملازمة التدين لتاريخ البشرية.

فملاحظة تاريخ الأمم والحضارات والأديان تفضي إلى نتيجة مشرقة واضحة، وهي أنه لم يخل قطّ عصر من العصور، أو أمة من الأمم، من دين أو معبود، سواء أكان حقا أو باطلا (3)

وهذا يدل على أن التدين وقبله الإقرار بوجود خالق للكون مدبرٍ له: أمر فطري متجذر في النفوس، يشترك الناس فيه، على اختلاف أحوالهم وعلومهم وبيئاتهم.

فلو فرضنا أن شخصا – أو مجموعة أشخاص – تُركوا على جزيرة نائية، دون تعليم أو تأثير خارجي، لوصلوا إلى ضرورة الإيمان بوجود الله؛ إذ ما ثبت تكرره ورسوخه في حق الإنسانية في عصورها المختلفة، صالح لأن يوجد في أية مجموعة مخصوصة منها. وهذا هو معنى فطرية معرفة وجود الله!

وقد يعترض بعض الناس بأن هذا ليس مطردا في تاريخ الإنسانية، بدليل ما نراه في هذا العصر من كثرة الملاحدة اللادينيين!

والجواب: أن الكثرة لا تعني الأكثرية، فهم كثيرون حقا – لأسباب مختلفة – لكنهم مع ذلك أقلية إن قورنوا بالمتدينين. فالإلحاد يبقى إذن استثناء مخالفا للأصل في البشر، وهو لذلك يحتاج إلى البحث في أسبابه، كما يبحث في سبب كل ما يخالف الأصل المستقر.

البرهان الثاني:
أن بني آدم أجمعين لهم شعور يشتركون فيه، هو اللجوء إلى الخالق سبحانه عند الشدائد. فالإنسان ولو كان مشركا يفزع عند المصيبة إلى ربه سبحانه، ويلتجئ إليه وحده دون غيره من المعبودات الباطلة، بل إن اعتداده بنفسه وقدراته الشخصية يتزعزع عند الحاجة، ويشعر في قرارة قلبه بافتقاره إلى ربه، وإن أظهر غير ذلك دفعا للحرج، واعتزازا بالإثم.

وقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } (يونس:12).

فرجوع الإنسان إلى ربه سبحانه عند الشدة، برهان جلي على أن فطرته مقرة بوجود الله وربوبيته، وإن أظهر حال الرخاء عكس ذلك.

ونحن حين نقول بفطرية معرفة الله تعالى، لسنا نزعم أن هذه المعرفة تبقى ملازمة للإنسان في كل أحواله، كما لا نزعم أنها تبقى سالمة لا تتأثر بالعوارض الخارجية ومؤثرات البيئة المحيطة. ولأجل ذلك فإننا نقرر أنها تحتجب أو تنتكس أو تتزعزع، فتأتي الشدائد لتكشف الحجاب، وتزيل الغشاوة وتبطل أثر المؤثرات الخارجية.

البرهان الثالث:
مما يدل على استقرار المعرفة الفطرية بوجود الله في نفوس البشر: أن الإنسان – كائنا من كان – لا ينفك عن العجز الذاتي، الذي ينمّي فيه الشعور بالافتقار إلى إله قادر مدبر، يلتجئ إليه في حاجاته، ويجبر نقصه بالتوجه إليه.

ولما كان العجز لازما للإنسان، كان هذا الشعور الناشئ عنه: لازما له أيضا.

وهذه حقيقة ارتكاز معرفة وجود الله في الفطرة الإنسانية.
 

البرهان الرابع:
ومما يدل على ذلك أيضا: أنه لو فرض أن معرفة وجود الله ليست فطرية، بل هي نظرية تحتاج إلى إقامة الدليل عليها، فإنه لا بد من وجود علوم فطرية ضرورية ينتهي الاستدلال إليها، ولا يقوم إلا بها، وإلا لزم التسلسل.

وهذه العلوم الفطرية الأولية التي يذكرها بعض الناس، إذا تأملتها وجدت أنها لا تزيد في ''ضرورتها'' على العلم بوجود الله. بل إن معرفة الله أكثر استقرارا في قلوب الناس من كثير من هذه المقدمات العلمية التي يعتقد أهل النظر أنها ضرورية فطرية.

فإما أن يقال بفطرية معرفة وجود الله كما يقال بفطرية هذه المعارف الأولية، وإما أن يقال بنفي المعارف الفطرية كلها، وحينئذ لا يمكن تثبيت استدلال عقلي، للحاجة إلى أساس ضروري يرجع إليه!
 

اعتراض على دليل الفطرة:

من أشهر ما يعترض به على دليل الفطرة قول بعضهم:

إذا كان وجود الله مستقرا في الفطر، فلِمَ يؤثر عن بعض الناس إنكارهم لوجوده؟

والجواب: أن الإقرار بوجود الله إنما هو في حق من سلمت فطرته من الانحراف، أما من تعرض لأعاصير الشبهات حتى اقتلعت الفطرة السليمة من قلبه، فإنه يحتاج إلى نصب الأدلة العقلية، وجمع البراهين العلمية.

وفساد الفطرة وتغيرها ليس أمرا محالا ولا بعيدا، فإن الإنسان قد يكون في بيئة ضالة منحرفة، فتتسرب إلى قلبه مؤثرات كثيرة، تبعده عن سواء السبيل.

قال ابن تيمية: ''إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة'' (4).

وهنالك وجه آخر في الجواب، وهو: أن المخالفين للفطرة، القائلين بإنكار الخالق، قلة قليلة في عموم البشر عبر التاريخ، كما سبق بيانه.

ثم إن كثيرا منهم ينكر وجود الله في الظاهر، مع إقراره بوجوده في الباطن؛ كما ذكر الله تعالى عن فرعون وقومه في تعاملهم مع آيات الله سبحانه: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } (النمل:14).

وقد يعترض بعضهم أيضا بأمر آخر، وهو أن العقلاء يسعون إلى الاستدلال على وجود الله – كما تجده مثلا في هذه السلسلة من المقالات -، ولو كان هذا أمرا فطريا لما احتيج إلى تكلف الاستدلال عليه!

ويجاب عن هذا بأن جماهير العقلاء مقرون بوجود الله، لا ينازعهم في ذلك شك. وإنما يتكلف بعضهم الاستدلال على ذلك لأحد أمرين:

أولهما: إقناع القلة القليلة من الناس، الذين تطرق إليهم شك في وجود الخالق، أو استقر عندهم إنكاره.

والثاني: الحرص على تعدد الأدلة على المدلول الواحد. فيضاف إلى دليل الفطرة أدلةٌ عقلية أخرى. ومن المعلوم أن تعدد الأدلة يزيد النفس طمأنينة، والقلب يقينا. وللإيمان درجات متفاوتة كما هو معلوم.

ولما كان المنكرون لوجود الله في العصور السابقة أقل، كادت الحاجة للأمر الأول تنتفي، فقلّ الاستدلال في كتب التراث الإنساني عموما، والإسلامي خصوصا.

وأما في عصرنا فقد كثر الملاحدة والمتشككون بسبب طغيان الحضارة المادية الجارفة، فكثر لأجل ذلك السعي إلى الاستدلال على وجود الباري سبحانه.

وبهذا تنتهي هذه السلسلة المختصرة، التي عقدتُها لبيان أدلة وجود الله تعالى.

والله الموفق.

هوامش المقالة
1- بهجة قلوب الأبرار: 64.
2- نقل هذا أنتوني فلو Antony Flew، كما في كتاب رحلة عقل للدكتور عمرو شريف: 59.
3- ومهمة الرسل تصحيح هذه الفطرة وتكميلها، ببيان ما يجب للمعبود وما يمتنع في حقه، ليتجه المخلوق إلى المعبود الحق، وهو الله سبحانه وتعالى.
4- مجموع الفتاوى: 16/328.

 

www.islamweb.net