ذكاء السياسات المالية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه

03/12/2015| إسلام ويب

أنعم الله على الرعيل الأول من بناة حضارة هذه الأمة بذكاء فطري فريد، كان له بالغ الأثر في تثبيت دعائم دولة الإسلام وتوطيد أركانها على أرض ما جاءها من بشير ولا نذير قبل داعية الإسلام، ولم تعرف سلطة مركزية ولا استقرارا لا تحت مظلة حكم مستبد ولا رشيد، وقد كان خليفة الإسلام في العصور الأولى يقع على عاتقه هم تسيير شؤون الدولة الدينية والدنيوية؛ ما يتعلق منها بالسياسة والاقتصاد وتدبير شؤون الحرب والسلم إلى غير ذلك من الأعباء التي تعجز عن الاضطلاع بها الوزارات وفرق العمل المتخصصة في عصرنا الحاضر، وكان على الخليفة فوق ذلك المشاركة بشكل عملي ومباشر كفرد من أفراد المجتمع في كل هذه المناحي وغيرها، ولم تكن أجهزة الدولة قد عرفت التعقيد والبيروقراطية، ولا دب إليها داء الترهل الإداري الذي فتك بها وبغيرها من المؤسسات في مرحلة لاحقة، والنموذج الذي يتناوله هذا المقال ينتمي إلى الصدر الأول من العصر الذهبي لتاريخ الخلافة الإسلامية؛ عصر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استمرت فترة خلافته لتغطي مساحة زمانية تمثل نسبة 37 % من فترة الخلافة الراشدة ككل لأكثر من 11 سنة .

منجزات الخليفة الثاني الفاروق رضوان الله عليه – السياسية والاقتصادية - كثيرة شهيرة أجل من أن يطالها حصر؛ فقد كان أول من اتخذ بيت مال للمسلمين، وأول من دون الدواوين في الإسلام لإحصاء أصحاب الأعطيات وتوزيع المرتبات عليهم، وأول من توسعت في عهده الدولة الإسلامية وبلغت مدخلات بيت المال من الخراج حدا قياسيا فاق حتى توقعات الخليفة نفسه، وقد أصدر رضي الله مجموعة صكوك قانونية منظمة لشؤون القضاء والمواطنين والأقليات ولحقوقهم وواجباتهم مازالت تمثل نموذجا نادرا للتاريخ الحقوقي والقانوني لدولة الإسلام منذ بواكير عهد الإدارة فيها، كما كان لحسن إدارته وتسييره الأثر البالغ في محاصرة كثير من الأزمات التي كادت تعصف بالدولة والمجتمع إبان عهد خلافته مثل ما حدث سنة 18 للهجرة فقد ضربت الجزيرة مجاعة شديدة وجدب وقحط فيما عرف بعام الرمادة، وفتك طاعون عَمَوَاس بالشام وأهله في نفس العام.

وسنستعرض هنا بعض المحطات البارزة في السيرة الاقتصادية للخليفة الثاني من خلال النصوص الحديثية التالية:
• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بثمان مائة ألف درهم، فقال: أَطيِّبٌ ويلك؟! قلت نعم، فبات عمر ليله أرِقاً حتى إذا نودي بصلاة الصبح قالت له امرأته: ما نمت الليلة! قال: كيف ينام عمر بن الخطاب، وقد جاء الناس ما لم يكن يأتيهم مذ كان الإسلام؟! فما يؤّمن عمر لو هلك وذلك المال عنده فلم يضعه في حقه؟! فلما صلّى الصبح اجتمع إليه نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنه قد جاء الناس الليلة ما لم يأتهم مذ كان الإسلام، وقد رأيت رأياً فأشيروا عليّ، رأيت أن أكيل للناس بالمكيال، فقالوا: لا تفعل يا أمير المؤمنين، إن الناس يدخلون في الإسلام ويكثر المال ولكن أعطهم على كتاب، فكلما كثر الناس وكثر المال أعطيتهم عليه قال: فأشيروا علي بمن أبدأ منهم؟ قالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك، ومنهم من قال: أمير المؤمنين أعلم، قال: لا ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأقرب فالأقرب إليه فوضع الديوان على ذلك " [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ] .

• عن سلمة بن سعيد قال: "أتى عمر بن الخطاب بمال فقام إليه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون أو أمر يحدث، فقال: كلمة ما عرض بها على لسانك إلا شيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها: أعصى الله العام مخافة قابل! أعد لهم تقوى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق]، وليكونن فتنة على من يكون بعدي"، [أخرجه ابن عساكر  وأبو نعيم في حلية الأولياء ].

• عن جهم بن أبى جهم قال: قدم خالد بن عرفطة العذري على عمر، فسأله عما وراءه فقال: يا أمير المؤمنين تركت مَن ورائي يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم، ما وطىء أحد القادسية إلا عطاؤه ألفان أو خمس عشرة مائة، وما من مولود يولد إلا ألحق على مائة وجريبين كل شهر ذكرا كان أو أنثى، وما بلغ لنا ذكر إلا ألحق على خمسمائة أو ستمائة، فإذا خرج هذا لأهل بيت منهم من يأكل الطعام ومنهم من لا يأكل الطعام فما ظنك به فإنه لينفقه فيما ينبغى، وفيما لا ينبغى، قال عمر: فالله المستعان، إنما هو حقهم أعطوه، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذه، فلا تحمدنى عليه، فإنه لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه ولكنى قد علمت أن فيه فضلا، ولا ينبغى أن أحبسه عنهم، فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء العريب ابتاع منه غنما فجعلها بسوادهم ثم أنه إذا خرج العطاء الثانية ابتاع الرأس فجعله فيها، فأنى ويحك يا خالد بن عرفطة أخاف أن يليكم بعدى ولاة لا يعد العطاء فى زمانهم مالا فإن بقى أحد منهم أو أحد من ولدهم كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه فإن نصيحتي لك وأنت عندي جالس كنصيحتي لمن هو بأقصى ثغر من ثغور المسلمين، وذلك لما طوقنى الله من أمرهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مات غاشا لرعيته لم يرح رائحة الجنة، [أخرجه ابن عساكر  والهندي في كنز العمال ].

• عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان يتجر وهو خليفة وجهز عيرا إلى الشام فبعث إلى عبد الرحمن بن عوف يستقرضه أربعة آلاف درهم فقال للرسول: قل له: يأخذها من بيت المال ثم ليردها، فلما جاءه الرسول فأخبره بما قال شق عليه، فلقيه عمر فقال: أنت القائل: ليأخذها من بيت المال فإن مت قبل أن تجيء قلتم: أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأوخذ بها يوم القيامة لا، ولكن أردت أن آخذها من رجل حريص شحيح مثلك فإن مت أخذها من ميراثي، أخرجه ابن سعد ، وابن عساكر ].

من هذه النصوص نستنبط أن خليفة رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يغتم لملء خزائن الدولة من الأموال خشية الخطأ في تصريفها على وجهها عكس المستبدين الذين يعتصبون الرعية حقها ولا يملأ شهية الشره المتصلة بموارد التخمة في بطونهم شيء، وكان عمر رضي الله عنه يفرح بتقسيم المال على مستحقيه أكثر من فرح الرعية باستقبال أعطياتهم، لذا فقد فاض المال في عصره بشكل كبير وشكّل بيت المال دعامة أساسية للمجتمع ولتوفير حاجياته، كذلك فإن عمر رضي الله كانت له نظرة ثاقبة وإستراتيجية اقتصادية ناجحة تظهر من خلال ما نقل عنه في النصوص السابقة في ما يأتي:

• حرص عمر رضي الله على إنشاء جسم اقتصادي تصرف منه الدولة على رعاياها ونشاطاتها ومنشآتها ويمثل نواة للاقتصاد الوطني وقد تمثل في بيت المال، لأنه لا سياسة ولا استمرارية لدولة قوية من دون اقتصاد قوي.
• على أن لا تتكدس الأموال في بيت المال هذا بل يعمل على توزيعها على مصارفها في المدى المتوسط والقصير خشية أن تفلت الأوضاع عن السيطرة لأن الدولة ما زالت حديثة في طور التكون والنشوء.
• تشجيع الأمة على إنشاء مواعين مالية ومصارف للادخار لأنه كان يدرك – بنافذ بصيرته – أن الأمة إذا تطاول بها الأمد ستظهر فيها علل الأمم السابقة ويستبد الولاة بأموال الرعية ويمنعونهم حقهم.
• إنشاء قاعدة بيانات لتدوين المعلومات والإحصاءات اللازمة عن الفقراء وأصحاب الأعطيات حتى يتدبر أمرهم، وحتى يأخذ كل ذي حق حقه.

هذا جانب من السياسات والمنجزات المالية لثاني الخلفاء الراشدين، نبراسٌ وضّاء ونورٌ ساطع في الفقه المالي، والاقتصاد الإسلامي؛ فلقد طور الفاروق رضي الله عنه النظام المالي بزيادة الموارد وضبط النفقات مع مراعاة ترتيب حقوق الناس في مختلف الأقاليم من خلال نظام الدواوين، ولقد شكلت سياسته نموذجاً تأصيلياً في التعامل مع النكبات التي تصيب الأمة عبر العصور فرضي الله عنه وأرضاه . 

www.islamweb.net