التطبيقات العملية لبنود صلح الحديبية

29/05/2018| إسلام ويب

إن هناك ما هو أَهَمُّ من بنود وثيقة صلح الحديبية وكيفيَّة صياغتها؛ وهو التطبيق الفعلي لهذه المعاهدات؛ فكم من المعاهدات كُتِبَتْ في التاريخ! وكم من المواثيق عُقِدَت، ثم صارت مع مرور الأيَّام حبرًا على ورق، ولم يعد هناك أيُّ معنًى لوجودها أو لعقدها!
إن أروع ما في معاهدات رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الجانب العملي التطبيقي الذي تلا كتابة هذه المعاهدات؛ إنَّك سترى في حياته صلى الله عليه وسلم مع مَنْ عاهدهم كلَّ معاني التآلف والعدل والتراحم والبرِّ والعدل والوفاء، وأرقى صور الأخلاق السامية.
إنه يكفي للدلالة على هذا الوفاء في التعاهد أن نذكر قصة أبي بصير رضي الله عنه..
لقد جاء أبو بصير- وهو رجل من قريش دخل في الإسلام- إلى المدينة المنورة بعد فترة وجيزة من كتابة صلح الحديبية، وكان يُريد أن ينضمَّ إلى الصفِّ المسلم فرارًا بدينه من أهل الكفر بمكة، ولكن القرشيين أرسلوا في طلبه رجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: العهد الذي جَعَلْتَ لنا. فدفعه إلى الرجلين أرأيت مثل هذا الوفاء؟!
إنه يردُّ مسلمًا جاءه إلى المدينة المنورة، والمدينة أحوج ما تكون إلى الرجال والجند، والرجل مسلمٌ قد يُفْتَنُ في دينه ويُعَذَّب، ومع ذلك يردُّهُ لأن بنود المعاهدة نصَّت على ذلك، وليس له إلاَّ الوفاء.
وقد تعجَّب أبو بصير رضي الله عنه نفسه من ردِّ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال متسائلاً: يا رسول الله؛ أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟!
قال صلى الله عليه وسلم:(يَا أَبَا بَصِيرٍ، انْطَلِقْ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا).
إن الوفاء بالعهد ليس اختيارًا من الاختيارات عند المسلمين.. إنه واجب لازم، وفريضة حتمية..
وتسلَّم الرجلان القرشيان أبا بصير رضي الله عنه بالفعل، وفي الطريق إلى مكة استطاع أن يحتال عليهما، فقتل واحدًا منهما، وفَرَّ الآخر!
تُرى.. إلى أين يفرُّ المشرك الآخر؟!
لقد فرَّ إلى المسجد النبوي!
فرَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فرَّ إلى الرجل الذي يعلم أنه سيجد عنده الأمان والسلام، حتى ولو كان الذي يُطارده مسلمًا، حتى ولو كان هو من الكافرين!
إنها آية من الآيات!

دخل الرجل المشرك المسجد النبوي يَعْدُو، فلمَّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليه، وقال: (لقد رأى هذا ذعرًا). فلمَّا انتهى الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل صاحبي، وإني لمقتول! فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد -والله- أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ) أي أن هذا الرجل سيُشعل حربًا لو كان معه رجال.
فلمَّا سمع أبو بصير رضي الله عنه هذه الكلمات أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيردُّه إلى المشركين؛ لكي لا تشتعل الحرب، فخرج من المدينة مسرعًا، حتى أتى منطقة سِيف البحر، وعسكر هناك، وبدأ يقطع الطريق على قوافل قريش، وقريش لا تقدر عليه، ولا تستطيع أن تلوم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس تحت سيطرته، وسمع بمكانه مسلمون آخرون في مكة، فقرَّرُوا أن يلتحقوا به ليكونوا له عونًا على قطع الطريق على قوافل مكة، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو، ولحق به سبعون آخرون من المسلمين الذين لا يستطيعون اللحاق بالمدينة لشروط المعاهدة، ولا يستطيعون البقاء في مكة لتعذيب الكفار لهم، وازدادت حدَّة الصدام بشدَّة بين هذه المجموعة المسلمة وبين قوافل قريش.. حتى اضطُرَّت قريش أخيرًا إلى أن تذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجوه أن يُلْحِقَ هؤلاء به، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يُريد حقيقةً أن يتعايش في سلام مع مَنْ حوله من المشركين فإنه قَبِلَ بذلك، وضمَّهم إليه، ولو شاء لتركهم يُنَغِّصون على قريش حياتها، ويُضعفون قوَّتها، ويستنْزِفون ثرواتها، ولكنه كان يتعامل مع قريش في صفاء نفس لا يُدركه إلاَّ مَنْ عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد إلغاء هذا البند من المعاهدة نعمت المنطقة بسلام حقيقي، وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجنُّب إيذاء قريش بأي صورة من الصور؛ حتى يضمن استمرار المعاهدة لأطول فترة ممكنة، ولعلَّ ما يُثْبِتُ هذا الأمان الفعلي ما رواه البخاري ومسلم أن أبا سفيان كان في تجارة إلى الشام بعد زمان الحديبية، ودار بينه وبين هرقل حوار طويل سأله فيه هرقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن صفته وعن أخلاقه.
فهذا أبو سفيان وتجار معه يُسافرون في أمان إلى الشام مع أن طرق التجارة تمرُّ بالمدينة، وتخوض في أعماق الصحراء في أماكن كثيرة تحت سيطرة المسلمين، لكنه الوفاء الذي لا حَدَّ له..
وقد كان من أسئلة هرقل المباشرة لأبي سفيان وهو يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: هل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا، ونحن منه في مُدَّةٍ، لا ندري ما هو صانع فيها.

فأبو سفيان مع كونه مشركًا في ذلك الوقت، ومعاديًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وكارهًا له، وغير مقتنع بنبوَّته إلا أنه في هذا الجانب لا يستطيع أن يقول غير الحقيقة، فوفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهر لا جدال فيه، كما يتضح من حوار أبي سفيان مع هرقل.. لقد دار هذا الحوار في أعقاب صلح الحديبية وقُبَيْلَ فتح مكة، مما يُؤَكِّد مدى الأمن الذي توفَّر لقوافل قريش، ومدى الوفاء الذي كان عليه المسلمون.
وعلى الرغم من تصاعد قوَّة المسلمين العسكرية بشكل لافت للنظر، وعلى الرغم من الانتصارات المتكرِّرَة هنا وهناك، وبخاصة انتصار المسلمين على يهود خيبر، وعلى الرغم من عالمية الإسلام في تلك الفترة، ومراسلة زعماء وملوك العالم ودعوتهم للإسلام، على الرغم من كل هذا التقدُّم والتفوُّق فإن المسلمين ما فكَّروا في غزو مكة أو إيذاء أهلها، وما فكروا حتى في استرداد أموالهم المسلوبة هناك؛ لأنهم ملتزمون تمامًا بعهدهم.
ولقد مرَّت الأيام سريعًا، وجاء الوقت المحدَّد للعمرة المتفق عليها في صلح الحديبية، وهي العمرة التي تمَّت في أواخر العام السابع من الهجرة وعُرِفَتْ بعمرة القضاء.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفين من أصحابه، وحمل معه سلاحًا كثيفًا، وأخذ عُدَّةَ حربٍ كبيرةً تحسُّـبًا لأي خيانة من قريش، ولكنه كان ينوي دخول مكة -كما اتفق مع أهلها العام الماضي- بسلاح المسافر فقط، ورأت عيون قريش الأسلحة فَفَزِعَتْ، وأرسلت وفدًا برئاسة "مِكْرَز بن حفص" ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن يأجج، بمر الظهران، فقالوا له: يا محمد؛ والله ما عرفناك صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر.. تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطتَ ألاَّ تدخل إلاَّ على العهد، وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها؟!
لقد وصلت قريش إلى حالة من الضعف لا تستطيع فيها أن تُواجه قوَّة المسلمين، فكان هذا الفزع من القوَّة الإسلامية، وكان من الممكن أن يستغل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفزع والهزيمة النفسية، وكان من الممكن أن يستغلَّ اقترابه من مكة إلى هذه الدرجة، وهو في ألفين من رجاله مدجَّجِينَ بالسلاح، كان من الممكن أن يستغلَّ ذلك كله في غزو مكة بحُجَّة استرداد الحقوق، أو بحُجَّة المعاملة بالمثل جزاء حصار الكفار للمدينة في غزوة الأحزاب؛ كان من الممكن كلُّ ذلك، لو كان القائد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الشرع الحاكم غير الإسلام.. إن المسلمين عند عهودهم مهما كانت الظروف؛ ولذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقة: (لا نَدْخُلُهَا إِلاَّ كَذَلِكَ) وسمع مِكْرَز الكلمة وطار مسرعًا إلى مكة يقول لهم: إن محمدًا لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم. لقد قال مِكْرَز هذه الكلمات وهو على يقين من تحقُّقها، وما دام قد قال صلى الله عليه وسلم فلا شَكَّ أنه صادق.
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح خارج مكة، وترك معه محمد بن مسلمة، في مائتي فارس لحمايته، ودخل هو وبقية الصحابة لأداء العمرة بالسيوف في أغمادها كما وَعَدَ.. وكان الاتفاق على أن تُخْلِيَ قريشٌ مكة بكاملها للمسلمين مدَّة ثلاثة أيام كاملة لأداء مناسك العمرة، وقد تمَّ ذلك، ووقف المشركون على رءوس الجبال المحيطة يُشاهدون مناسك العمرة طِبْقًا للشرع الإسلامي.

وتمَّت العمرة المباركة، وارتاحت قلوب المسلمين برؤية الكعبة والطواف حولها، ومرَّت الأيام الثلاثة بسرعة، وفي آخرها تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية، رضي الله عنها، وهي خالة خالد بن الوليد من كبار زعماء قريش، وأخت أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب عَمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا الزواج بُعْدٌ سياسي واضح؛ فخالد بن الوليد ليس قائدًا هامشيًّا في مكة، بل هو أعظم قُوَّادها العسكريين مُطلقًا، وكان من الواضح أنَّ حِدَّة طباع خالد قد خَفَّتْ مع المسلمين جدًّا بعد وقعة الحديبية؛ لِمَا رآه من أحوالهم، ومن إحساسه أنهم مُؤَيَّدُون بقوَّة خارقة لا يعرفها، حتى إنه يوم الحديبية يصف الرسول صلى الله عليه وسلم وجيش المسلمين بقوله: "لرَّجُلُ مَمْنُوعٌ".
لقد غَيَّرَت الأحداث نفسية وسلوك خالد بن الوليد، وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالته سوف يُقَرِّبُ منه أكثر وأكثر، ولو حدث وأسلم خالد فإن هذه ستكون إحدى الضربات القاضية للكفر وللكافرين، وسبحان الله! فقد أسلم خالد رضي الله عنه بعد شهور قليلة من عمرة القضاء مُثْبِتًا بذلك عمق نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد انتهاء الأيام الثلاثة المحدَّدة للعمرة جاء سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى موفدين من قِبَل قريش لحثِّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الخروج؛ فقالوا له بغلظة: إنه قد انقضى أجلك؛ فاخرج عنا. فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتلطَّف معهم بالرغم من جفائهم، فقال لهم: (وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ؟)
لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون طبيعيًّا تمامًا في تعامله معهم؛ بل أراد أن يكون ودودًا كريمًا مضيافًا يدعوهم إلى طعامه وشرابه واحتفاله بعُرسه، متناسيًا تمامًا تاريخهم الأسود معه.
 

www.islamweb.net