بين حسن الظن والاغترار

14/06/2020| إسلام ويب

من أفضل خصال الخير، وأنواع البر الرجاء في الله وحسن الظن به.
قال يحيى بن معاذ: "أوثق الرجاء رجاء العبد ربه، وأصدق الظنون حسن الظن بالله".
قال ابن مسعود: "والله الذي لا إله إلا هو.. لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه ظنه".
وتصديق هذا في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء)(رواه أحمد).

والرجاء في الله وحسن الظن به من مقتضيات التوحيد والإيمان، وهو من أعمال القلوب، وهو قرة عين لأصحابه، فمن أحسن بالله ظنه قرت بالله عينه؛ قال يحيى بن معاذ: "من لم يحسن بالله ظنه، لم تقر بالله عينه".

وكيف لا يحسن ظننا بالله وما رأينا منه إلا الخير والجميل، وما بنا من نعمة إلا منه.. خلقنا وهدانا، وكفانا وآوانا، وأطعمنا وسقانا، ومن كل ما سألناه أعطانا {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}(الشعراء:78ـ82).

ومن جميل حسن الظن ما قاله بعض العباد: "لما علمت أن ربي يلي محاسبتي زال عني حزني. قيل له ولم؟ قال: إن الكريم إذا قدر عفا.
ومرض أعرابي، فقيل له: إنك تموت. قال ثم ماذا؟ قالوا: يذهب بك إلى الله. قال: فما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه؟

نظن به الخير بلا شك.. فما جربنا منه إلا الخير.. سألناه فأعطانا، ودعوناه فأجابنا، وعصيناه فسترنا، وبعدنا عنه فأمهلنا، وجهلنا فحلم علينا، شرنا إليه صاعد، وخيره إلينا نازل، نتبغض إليه بالمعاصي ونحن أحوج شيء إليه، ويتودد إلينا بالنعم وهو أغنى شيء عنا، وبعد كل هذا إذا تبنا إليه قبلنا وغفر لنا وتاب علينا.
وفي الحديث القدسي: [ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة].(رواه الترمذي وقال: حديث حسن).

وفي صحيح البخاري ومسلم: [أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة].
وعند مسلم عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ].
وهذا في كل الذنوب صغيرها وكبيرها، وقليلها وكثيرها.

إياك والقنوط:
إننا حين نتحدث عن الرجاء في رحمة الله والطمع في مغفرته وحسن الظن به إنما نريد أن نقول إن باب التوبة والعودة إلى رحاب الله مفتوح أمامنا جميعًا، وأمام المقصرين في حق الله خصوصا، والعاصين المقل منهم والمكثر، وكلنا ذلك الرجل ـ فكل ابن آدم خطاء، ومن أعظم الظلم أن يفتحه الله أمام الناس ونغلقه نحن، أو أن يغلقه العبد أمام نفسه؛ وذلك حين يظن أنه ارتكب من الخطايا ما لا يغفره الله، فييأس من رحمة الله ويقنط، وهذا القنوط أكبر من كل خطيئة، وأعظم من كل ذنب، أن نعتقد أن هناك من الذنوب ما تعجز رحمة الله أن تحتويه، أو عفو الله أن يغفره، وقد قال تعالى: {فلا تكن من القانطين} وقال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. وقال: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

فمهما بلغت ذنوبك ومهما كثرت خطاياك، وعظمت رزاياك، فماذا فعلت: زنيت، سرقت، شربت الخمر، اسمع إلى حديث شطب الممدود أبي طويل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها بيمينه فهل لذلك من توبة؟ قال: هل أسلمت؟ قال: أما أنا فاشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأنك رسوله. قال: نعم. تفعل الخيرات، وتترك السيئات، يجعلهن الله لك كلهن خيرات. قال: وغدراتي وفجراتي. قال: نعم. قال: الله أكبر... فما زال يكبر حتى توارى.
وهذا في كتاب الله في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقى أثامًا * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا * إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا}.

ورجاء الرحمة في الآخرة أعظم وأكبر إن شاء الله؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: [إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، منها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها... وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة].

رجاء لا اغترار
والرجاء المحمود المطلوب هو الذي لا يتجاوز به صاحبه إلى الاغترار، فبينهما فارق:
قال النسفي: "وفرقوا بين الرجاء والاغترار فقالوا: الرجاء يكون لمن مهد أسباب المرجو، والاغترار لمن أخل بها".
وقال قتادة الظن نوعان: ظن منج وظن مرد، فالظن المنجي هو ظن المؤمنين، والظن المردي هو ظن الكافرين والمعرضين.

وقال ابن القيم في مدارج السالكين: الرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان ونوع غروز مذموم.
فالأول: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه. 
والثاني: رجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
ولهذا قد قال ابن القيم أيضا في المدارج: "أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل".

وسر المسألة أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع العمل والإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعة وقدره وثوابه وكرامته، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه ويرجوه ألا يكله إليها، وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعارضها ويبطل أثرها.
ولذلك لما قيل للحسن: إن قوما أساءوا العمل وقالوا نحسن الظن بالله. قال: كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

والناس في حياتهم يعلمون هذا ويقبلونه ويعدون مخالفه مطعونا في عقله وفهمه، فمن رجا ولدا بغير زواج اتهم في عقله، ومن رجا ثمرا بغير زرع وبذر قالوا مجنون، حتى من جاع أو عطش فرجا الشبع بغير طعام، أو الري بغير شرب اتهموه على عقله.
ولو أنك استأجرت أجيرًا ليؤدي لك عملاً، فأخذ يومه في اللهو واللعب أو النوم والخمول والكسل، وما أدى عمله ثم جاءك آخر النهار يطلب أجره فماذا ستصنع فيه؟!

وكذلك هنا، من رجا منازل الأبرار بأفعال الفجار، أو رجا الفوز بالجنة وهو يعمل بعمل أهل النار، أو رجا القرب من الله بغير عمل كان رجاؤه من قبيل الأماني والغرور لا من قبيل الرجاء الممدوح المرغوب.

يقول معروف الكرخي: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، ورجاء رحمة من لا تطيعه جهل وحمق.

ويقول يحيى بن معاذ: إن من أعظم الاغترار التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير توبة، وتوقع القرب من الله بغير طاعة، وانتظار الجنة ببذر النار.
ثم قال: عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب؟! هيهات هيهات، أنت سكران بغير شراب.
يا ناظـــرًا يرنــو بعيــني راقــد .. ... ومشــاهدًا للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان ونيل فوز العابد
ونســيت أن الله أخـــــرج آدمـــا .. ...  منــها إلى الدنيا بذنب واحد

فالذي يرجو رحمة ربه لابد أن يبذل وسعه في طاعة الله ثم يرجو رحمة أرحم الرحمين؛ هذا الذي ذكره ربنا في كتابه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:218]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر:29]، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}[طـه:82].
 

www.islamweb.net