[ ص: 107 ] ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) .
قوله تعالى : ( إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : ( إذ قال ) وجهان :
الأول : أوحيت إلى الحواريين إذ قال الحواريون .
الثاني : اذكر إذ قال الحواريون .
المسألة الثانية : ( هل يستطيع ربك ) قرأ الكسائي ( هل تستطيع ) بالتاء ( ربك ) بالنصب وبإدغام اللام في التاء ، وسبب الإدغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا ، وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام ، وهذه القراءة مروية عن علي . وعن وابن عباس رضي الله عنها أنها قالت : كانوا أعلم بالله من أن يقولوا : هل يستطيع ؟ وإنما قالوا : هل تستطيع أن تسأل ربك . وعن عائشة معاذ بن جبل : أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( هل تستطيع ) بالتاء ( ربك ) بالنصب . والباقون ( يستطيع ) بالياء ( ربك ) برفع الباء وبالإظهار ، فأما القراءة الأولى فمعناها : هل تستطيع سؤال ربك ؟ قالوا : وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى ، والثانية توجب شكهم في استطاعة الله ، ولا شك أن الأولى أولى ، وأما القراءة الثانية ففيها إشكال ، وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم ( قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال : إنهم بقوا شاكين في اقتدار الله تعالى على ذلك ؟
والجواب عنه من وجوه :
الأول : أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم : ( هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين ؛ فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملا في الإيمان ، وقالوا : ( ونعلم أن قد صدقتنا ) وهذا يدل على مرض في القلب ، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم : ( اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان .
والوجه الثاني في الجواب : أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام : ( ولكن ليطمئن قلبي ) فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ، ولهذا السبب قالوا : ( وتطمئن قلوبنا ).
والوجه الثالث في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا ، وذلك لأن أفعال الله تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ، ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعا ، فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة ، وهذا الجواب [ ص: 108 ] يتمشى على قول المعتزلة ، وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه ؟ فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور .
الوجه الرابع : قال السدي : ( هل يستطيع ربك ) أي هل يطيعك ربك إن سألته ، وهذا تفريع على أن (استطاع) بمعنى (أطاع) والسين زائدة .
الوجه الخامس : لعل المراد بالرب هو جبريل عليه السلام ؛ لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع الإعانة ، ولذلك قال تعالى في أول الآية : ( إذ أيدتك بروح القدس ) يعني أنك تدعي أنه يربيك ويخصك بأنواع الكرامة ، فهل يقدر على عليك . إنزال مائدة من السماء
والوجه السادس : أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا ؟ ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح لا يجوز لعاقل أن يشك فيه ، فكذا هاهنا .
المسألة الثالثة : قال الزجاج : (المائدة) فاعلة من ماد يميد : إذا تحرك ، فكأنها تميد بما عليها ، وقال : سميت مائدة لأنها عطية ، من قول العرب : ماد فلان فلانا يميده ميدا : إذا أحسن إليه ، فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى معطية ، وقال ابن الأنباري أبو عبيدة : (المائدة) فاعلة بمعنى مفعولة ، مثل ( عيشة راضية ) وأصلها : مميدة ميد بها صاحبها ، أي أعطيها وتفضل عليه بها ، والعرب تقول : مادني فلان يميدني : إذا أحسن إليه .
ثم قال تعالى : ( قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) وفيه وجهان :
الأول : قال عيسى : اتقوا الله في تعيين المعجزة ؛ فإنه جار مجرى التعنت والتحكم ، وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم ، ولأنه أيضا اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة ، وهو جرم عظيم .
الثاني : أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سببا لحصول هذا المطلوب ، كما قال : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) [الطلاق : 2] وقال : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) [المائدة : 35] وقوله : ( إن كنتم مؤمنين ) يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادرا على إنزال المائدة فاتقوا الله لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب .