الأولى : قوله تعالى : " يسألونك " تقدم القول فيه . وروى جرير بن عبد الحميد [ ص: 39 ] عن ومحمد بن فضيل عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن : يسألونك عن المحيض ، يسألونك عن الشهر الحرام ، يسألونك عن اليتامى ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ) . قال ما رأيت قوما خيرا من أصحاب : ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث . وروى ابن عبد البر أبو اليسار عن جندب بن عبد الله أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث ، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : ولا تكرهن أصحابك على المسير ، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، قال : فرجع رجلان ومضى بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب ، فقال المشركون : قتلتم في الشهر الحرام ، يسألونك عن الشهر الحرام الآية . فأنزل الله تعالى : وروي أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أن رجلين من بني كلاب لقيا وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما ، فقالت عمرو بن أمية الضمري قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت الآية . والقول بأن نزولها في قصة عبد الله بن جحش أكثر وأشهر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع تسعة رهط ، وقيل ثمانية ، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ، وقيل في رجب . قال أبو عمر - في كتاب الدرر له - : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر - وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى - أقام بالمدينة بقية [ ص: 40 ] جمادى الآخرة ورجب ، وبعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين ، وهم أبو حذيفة بن عتبة ، ، وعكاشة بن محصن ، وعتبة بن غزوان ، وسهيل بن بيضاء الفهري ، وسعد بن أبي وقاص ، وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله التميمي ، وخالد بن بكير الليثي . وكتب لعبد الله بن جحش كتابا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه ، وكان أميرهم ، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به ، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه : ( إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم ) . فلما قرأ الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ثم أخبر أصحابه بذلك ، وبأنه لا يستكره أحدا منهم ، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه ، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده ، فمن أحب الشهادة فلينهض ، ومن كره الموت فليرجع . فقالوا : كلنا نرغب فيما ترغب فيه ، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهضوا معه ، فسلك على الحجاز ، وشرد لسعد بن أبي وقاص جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ، ونفذ وعتبة بن غزوان عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة ، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي عبد الله بن عباد من الصدف ، والصدف بطن من حضرموت - وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان ، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة ، فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام ، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام : وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ، ثم اتفقوا على لقائهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله ، ثم قدموا بالعير والأسيرين ، وقال لهم عبد الله بن جحش : اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ، فكان أول خمس في الإسلام ، ثم نزل القرآن : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة ، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام ، وأول أمير ، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل . وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فسقط في أيدي القوم ، فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه إلى قوله : هم فيها خالدون . وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين ، فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة [ ص: 41 ] كافرا ، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة ، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين . وقيل : إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبد الله بن جحش ، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم ، فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد فزعوا منكم ، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم ، وتشاوروا في قتالهم ، الحديث . وتفاءلت اليهود وقالوا : واقد وقدت الحرب ، وعمرو عمرت الحرب ، والحضرمي حضرت الحرب . وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم ، فقال : لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما قتلناهما بهما ، فلما قدما فاداهما ، فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى ، وطلب المشركون جيفته بالثمن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهذا سبب نزول قوله تعالى : خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية يسألونك عن الشهر الحرام . وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب ، على ما تقدم . وذكر الطبري عن وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة ، والأول أشهر ، على أن السدي ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب ، والمسلمون يظنونها من جمادى . قال ابن عطية : وذكر في رسالته المعروفة بالأسدية أن الصاحب بن عباد عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين .
الثانية واختلف العلماء في نسخ هذه الآية ، فالجمهور على نسخها ، وأن مباح . واختلفوا في ناسخها ، فقال قتال المشركين في الأشهر الحرم الزهري : نسخها " وقاتلوا المشركين كافة " . وقيل نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا [ ص: 42 ] عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام . وقيل : نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة ، وهذا ضعيف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم . وذكر عن البيهقي عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي : فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية ، قال : فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين ، وفتنتهم إياهم عن الدين ، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل : " براءة من الله ورسوله " . وكان عطاء يقول : الآية محكمة ، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم ، ويحلف على ذلك ؛ لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة ، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق . وروى أبو الزبير عن جابر قال : . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى
الثالثة : قوله تعالى : " قتال فيه " " قتال " بدل عند بدل اشتمال ؛ لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال ، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر ، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه . قال سيبويه الزجاج : المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام . وقال القتبي : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز ؟ فأبدل قتالا من الشهر ، وأنشد [ للشاعر سيبويه عبدة بن الطيب ] :
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
وقرأ عكرمة : " يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل " بغير ألف فيهما . وقيل : المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه ، وهكذا قرأ ابن مسعود ، فيكون مخفوضا بعن [ ص: 43 ] على التكرير ، قاله الكسائي . وقال الفراء : هو مخفوض على نية عن . وقال أبو عبيدة : هو مخفوض على الجوار . قال النحاس : لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام ، وإنما الجوار غلط ، وإنما وقع في شيء شاذ ، وهو قولهم : هذا جحر ضب خرب ، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية : هذان : جحرا ضب خربان ، وإنما هذا بمنزلة الإقواء ، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا ، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها . قال ابن عطية : وقال أبو عبيدة : هو خفض على الجوار ، وقوله هذا خط . قال النحاس : ولا يجوز إضمار " عن " ، والقول فيه أنه بدل . وقرأ : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " بالرفع . قال الأعرج النحاس : وهو غامض في العربية ، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه ؟ فقوله : " يسألونك " يدل على الاستفهام ، كما قال امرؤ القيس :أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
تروح من الحي أم تبتكر
والمعنى : أتروح ، فحذف الألف لأن " أم " تدل عليها .الرابعة : قل قتال فيه كبير ابتداء وخبر ، أي مستنكر ؛ لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين . والشهر في الآية اسم جنس ، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده ، فكانت لا تسفك دما ، ولا تغير في الأشهر الحرم ، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ثلاثة سرد وواحد فرد . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " المائدة " إن شاء الله تعالى . قوله تعالى :
الخامسة : قوله تعالى : وصد عن سبيل الله ابتداء " وكفر به " عطف على " صد " " والمسجد الحرام " عطف على " سبيل الله " " وإخراج أهله منه " عطف على " صد " ، وخبر الابتداء " أكبر عند الله " أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام ، قاله المبرد وغيره . وهو الصحيح ، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها . " وكفر به " أي بالله ، وقيل : " وكفر به " أي بالحج والمسجد الحرام . " وإخراج أهله منه أكبر " أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام . وقال الفراء : " صد " عطف على " كبير " [ ص: 44 ] . " والمسجد " عطف على الهاء في به ، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع . قال ابن عطية : وذلك خطأ ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : " وكفر به " أي بالله عطف أيضا على " كبير " ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده . ومعنى الآية على قول الجمهور : إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه ، كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله . وقال عبد الله بن جحش رضي الله عنه :
تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن غيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند
السادسة : والفتنة أكبر من القتل قال قوله تعالى : مجاهد وغيره : الفتنة هنا الكفر ، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك . وقال الجمهور : معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام .
السابعة : قوله تعالى : " ولا يزالون " ابتداء خبر من الله تعالى ، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة . قالمجاهد : يعني كفار قريش . " يردوكم " نصب بحتى ؛ لأنها غاية مجردة .
الثامنة : قوله تعالى : " ومن يرتدد " . " فأولئك حبطت " أي بطلت وفسدت ، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها ، وربما تموت من ذلك ، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام . أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر
[ ص: 45 ] التاسعة : واختلف العلماء في هل يستتاب أم لا ؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا ، إلا على الموافاة على الكفر ؟ وهل يورث أم لا ؟ فهذه ثلاث مسائل : المرتد
الأولى : قالت طائفة : يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وقال بعضهم : ساعة واحدة . وقال آخرون : يستتاب شهرا . وقال آخرون : يستتاب ثلاثا ، على ما روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم . وقال الحسن : يستتاب مائة مرة ، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة ، وبه قال في أحد قوليه ، وهو أحد قولي الشافعي طاوس . وذكر وعبيد بن عمير سحنون أن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول : يقتل المرتد ولا يستتاب ، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى ، وفيه أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال : انزل ، وألقى إليه وسادة ، وإذا رجل عنده موثق قال : ما هذا ؟ قال : هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود . قال : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، فقال : اجلس . قال : نعم لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل ، خرجه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث مسلم وغيره . وذكر أبو يوسف عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه ، إلا أن يطلب أن يؤجل ، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ، والمشهور عنه وعن أصحابه أن . المرتد لا يقتل حتى يستتاب عندهم والمرتد سواء . وقال والزنديق مالك : وتقتل الزنادقة ولا يستتابون . وقد مضى هذا أول " البقرة " . واختلفوا فيمن ، فقال خرج من كفر إلى كفر مالك وجمهور الفقهاء : لا يتعرض له ؛ لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه . وحكى ابن عبد الحكم عن أنه يقتل ، لقوله عليه السلام : الشافعي ولم يخص مسلما من كافر . وقال من بدل دينه فاقتلوه مالك : معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر ، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث ، وهو قول جماعة من الفقهاء . والمشهور عن ما ذكره الشافعي المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ؛ لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد . واختلفوا في المرتدة ، فقال مالك والأوزاعي والشافعي : تقتل كما يقتل المرتد سواء ، وحجتهم ظاهر الحديث : والليث بن سعد . و " من " يصلح للذكر والأنثى . وقال من بدل دينه فاقتلوه الثوري [ ص: 46 ] وأصحابه : وأبو حنيفة ، وهو قول لا تقتل المرتدة ابن شبرمة ، وإليه ذهب ، وهو قول ابن علية عطاء والحسن . واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثم إن من بدل دينه فاقتلوه ابن عباس لم يقتل المرتدة ، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله ، وروي عن علي مثله . ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان . واحتج الأولون بقوله عليه السلام : فعم كل من كفر بعد إيمانه ، وهو أصح . لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان . . .
العاشرة : قال : إن الشافعي لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه ، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله . وقال من ارتد ثم عاد إلى الإسلام مالك : تحبط بنفس الردة ، ويظهر الخلاف في ، فقال المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم مالك : يلزمه الحج ؛ لأن الأول قد حبط بالردة . وقال : لا إعادة عليه ؛ لأن عمله باق . واستظهر علماؤنا بقوله تعالى : الشافعي لئن أشركت ليحبطن عملك . قالوا : وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا . وقال أصحاب : بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة ، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله ، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته ، كما قال : الشافعي يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ، وذلك لشرف منزلتهن ، وإلا فلا يتصور إتيانه منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم ؛ . وقال علماؤنا : إنما ذكر الله الموافاة شرطا هاهنا لأنه علق عليها ابن العربي ، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى ، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين ، وحكمين متغايرين . وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه ، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان : أحدهما لحرمة الدين ، والثاني لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكل هتك حرمة عقاب ، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام ، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات . والله أعلم . الخلود في النار جزاء
[ ص: 47 ] الحادية عشرة : وهي اختلاف العلماء في ، فقال ميراث المرتد علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة : ميراث المرتد لورثته من المسلمين . وقال وإسحاق بن راهويه مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي : ميراثه في بيت المال . وقال وأبو ثور ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد في إحدى الروايتين : ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين . وقال والأوزاعي أبو حنيفة : فهو فيء ، ما اكتسبه المرتد في حال الردة يرثه ورثته المسلمون ، وأما وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين ، ومطلق قوله عليه السلام : يدل على بطلان قولهم . وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه ، سوى لا وراثة بين أهل ملتين عمر بن عبد العزيز فإنه قال : يرثونه .
الثانية عشرة : إن الذين آمنوا والذين هاجروا الآية . قال قوله تعالى : جندب بن عبد الله وغيرهما : وعروة بن الزبير واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخذ خمسه الذي وفق في فرضه له عبد الله بن جحش وفي الأسيرين ، فعنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه حتى شق ذلك عليهم ، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية في الشهر الحرام وفرج عنهم ، وأخبر أن لهم ثواب من هاجر وغزا ، فالإشارة إليهم في قوله : " إن الذين آمنوا " ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله عز وجل . وقيل : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر ، فأنزل الله : لما قتل إن الذين آمنوا والذين هاجروا إلى آخر الآية .
الانتقال من موضع إلى موضع ، وقصد ترك الأول إيثارا للثاني . والهجر ضد الوصل . وقد هجره هجرا وهجرانا ، والاسم الهجرة . والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية . والتهاجر التقاطع . ومن قال : المهاجرة الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد أوهم ، بسبب أن ذلك كان الأغلب في العرب ، وليس والهجرة معناها أهل مكة مهاجرين على قوله . وجاهد مفاعلة من جهد إذا استخرج الجهد ، مجاهدة وجهادا . والاجتهاد والتجاهد : بذل الوسع [ ص: 48 ] والمجهود . والجهاد ( بالفتح ) : الأرض الصلبة . و " يرجون " معناه يطمعون ويستقربون . وإنما قال " يرجون " وقد مدحهم لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ ، لأمرين : أحدهما : لا يدري بما يختم له . والثاني : لئلا يتكل على عمله ، والرجاء ينعم ، والرجاء أبدا معه خوف ولابد ، كما أن الخوف معه رجاء . والرجاء من الأمل ممدود ، يقال : رجوت فلانا رجوا ورجاء ورجاوة ، يقال : ما أتيتك إلا رجاوة الخير . وترجيته وارتجيته ورجيته وكله بمعنى رجوته ، قال بشر يخاطب بنته :
فرجي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارظ العنزي آبا
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل