بسم الله الرحمن الرحيم
( والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها )
[ ص: 417 ] أغرق في الشيء : بالغ فيه وأنهاه ، وأغرق النازع في القوس : بلغ غاية المد حتى ينتهي إلى النصل . والاستغراق : الاستيعاب ، والغرقى : قشرة البيضة . نشط البعير والإنسان ربطه ، وأنشطه : حله ، ومنه : وكأنما أنشط من عقال . ونشط : ذهب من قطر إلى قطر ، ولذلك قيل لبقر الوحش النواشط ، لأنهن يذهبن بسرعة من مكان إلى مكان ، ومنه قول الشاعر ، وهو هميان بن قحافة :
أرى همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا
وكأن هذه اللفظة مأخوذة من النشاط . وقال أبو زيد : نشطت الحبل أنشطه نشطا : عقدته أنشوطة ، وأنشطته : حللته ، وأنشطت الحبل : مددته . وقال الليث : أنشطته بأنشوطة : أي وثقته ، وأنشطت العقال : مددت أنشوطته فانحلت ، ويقال : نشط بمعنى أنشط ، والأنشوطة : عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة .
وجف القلب وجيفا : اضطرب من شدة الفزع ، وكذلك وجب وجيبا . وفي كتاب لغات القرآن المروي عن ، واجفة : خائفة ، بلغة ابن عباس همدان . الحافرة ، يقال : رجع فلان في حافرته : أي في طريقه التي جاء منها ، فحفرها : أي أثر فيها بمشيه فيها ، جعل أثر قدميه حفرا ، وتوقعها العرب على أول أمر يرجع إليه من آخره ، ومنه قول الشاعر :
أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار
أي : أأرجع إلى الصبا بعد الصلع والشيب ؟ الناخرة : المصوتة بالريح المجوفة ، والنخرة بمعناها ، كطامع وطمع ، وحاذر وحذر ، قاله الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وجماعة . وقيل : النخرة : البالية المتعفنة الصائرة رميما . نخر العود والعظم : بلي وتفتت ، فمعناه مغاير للناخرة ، وهو قول الأكثرين . وقال : الناخرة : التي لم تنخر بعد ، والنخرة : التي قد بليت . قال الراجز لفرسه : أبو عمرو بن العلاء
أقدم أخا نهم على الأساوره ولا تهولنك رءوس نادره
فإنما قصرك ترب الساهره حتى تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاما ناخره
وأخليتها من مخها فكأنها قوارير في أجوافها الريح تنخر
ويروى : تصفر ، ونخرة الريح ، بضم النون : شدة هبوبها ، والنخرة أيضا : مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير ، يقال : هشم نخرته . الساهرة : وجه الأرض والفلاة ، وصفت بما يقع فيها وهو السهر للخوف . وقال : أمية بن أبي الصلت
وفيها
لحم ساهرة وبحر وما فاهوا به لهم مقيم
يرتدن ساهرة كأن جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم
والساهور كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف . وقال : أمية بن أبي الصلت
[ ص: 418 ]
وبث الخلق فيها إذ دحاها فهم قطانها حتى التنادي
وقيل : دحاها : سواها ، قال زيد بن عمرو :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
الطامة : الداهية التي تطم على الدواهي ، أي تعلو وتغلب . وفي أمثالهم : أجرى الوادي فطم على القرى ، ويقال : طم السيل الركية إذا دفنها ، والطم : الدفن والعلو .
( والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) .
[ ص: 419 ] هذه السورة مكية . ولما ذكر في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة ، أقسم في هذه على البعث يوم القيامة . ولما كانت الموصوفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها ، وكان لهذه الصفات تعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها ، فقال عبد الله ( النازعات ) : الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، و ( وابن عباس غرقا ) : إغراقا ، وهي المبالغة في الفعل ، أو غرق في جهنم ، يعني نفوس الكفار ، قاله علي . وقال وابن عباس الحسن ، و قتادة ، وأبو عبيدة ، وابن كيسان ، والأخفش : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق . وقال وجماعة : تنزع بالموت إلى ربها ، وغرقا : أي إغراقا في الصدر . وقال السدي أيضا : النفوس تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ، ولها نزع عند الموت . وقال السدي عطاء وعكرمة : القسي أنفسها تنزع بالسهام . وقال عطاء أيضا : الجماعات النازعات بالقسي وغيرها إغراقا . وقال مجاهد : المنايا تنزع النفوس . وقيل : النازعات : الوحش تنزع إلى الكلأ ، حكاه . وقيل : جعل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها ؛ لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، قاله في الكشاف . يحيى بن سلام
( والناشطات ) قال ، و ابن عباس مجاهد : الملائكة تنشط النفوس عند الموت ، أي تحلها وتنشط بأمر الله إلى حيث كان . وقال أيضا و ابن عباس قتادة ، والحسن والأخفش : النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، تذهب وتسير بسرعة . وقال مجاهد أيضا : المنايا . وقال عطاء : البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر . وقال أيضا : النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج . وقيل : التي تنشط للإزهاق . ابن عباس
( والسابحات ) قال علي ومجاهد : الملائكة تتصرف في الآفاق بأمر الله ، تجيء وتذهب . وقال قتادة والحسن : النجوم تسبح في الأفلاك . وقال : الشمس والقمر والليل والنهار . وقال أبو روق عطاء وجماعة : الخيل ، يقال للفرس سابح . وقيل : السحاب لأنها كالعائمة في الهواء . وقيل : الحيتان دواب البحر فما دونها وذلك من عظم المخلوقات ، فيبدي أنه تعالى أمد في الدنيا نوعا من الحيوان ، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر . وقال عطاء أيضا : السفن . وقال مجاهد أيضا : المنايا تسبح في نفوس الحيوان .
( فالسابقات ) قال مجاهد : الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح ، وقاله . وقال أبو روق : أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها ، وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى . وقال ابن مسعود عطاء : الخيل ، وقيل : النجوم ، وقيل : المنايا تسبق الآمال ( فالمدبرات ) قال ابن عطية لا أحفظ خلافا أنها الملائكة ، ومعناه أنها التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها ، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات . انتهى . وقيل : الموكلون بالأحوال : الملائكة جبريل للوحي ، وميكائيل للمطر ، وإسرافيل للنفخ في الصور ، وعزرائيل لقبض الأرواح . وقيل : تدبيرها نزولها بالحلال والحرام . وقال معاذ : هي الكواكب السبعة ، وإضافة التدبير إليها مجاز ، أي يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك .
ولفق من هذه الأقوال أقوالا اختارها وأدارها أولا على ثلاثة : الملائكة أو الخيل أو النجوم . ورتب جميع الأوصاف على كل واحد من الثلاثة ، فقال : أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي هي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها ، أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمرا من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم ، كما رسم لهم ، غرقا أي إغراقا في النزع ، أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظافرها ، أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها إلى آخر ما نقلناه ، ثم قال : من قولك : ثور ناشط ، إذا خرج من بلد إلى [ ص: 420 ] بلد ، والتي تسبح في جريتها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه . أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط من أقصى المغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمرا في علم الحساب . الزمخشري
وقيل : النازعات : أيدي الغزاة أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام والتي تنشط الإرهاق . انتهى . والذي يظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء ، وأن المعطوف بالواو وهو مغاير لما قبله ، كما قررناه في المرسلات ، على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو ومن عطف الصفات بعضها على بعض . والمختار في جواب القسم أن يكون محذوفا وتقديره : لتبعثن لدلالة ما بعده عليه ، قاله الفراء .
وقال : الجواب : ( محمد بن علي الحكيم الترمذي إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ) والمعنى فيما اقتصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى عليه السلام ، وفرعون . قال : وهذا قبيح لأن الكلام قد طال . وقيل : اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله : ( ابن الأنباري يوم ترجف الراجفة ) أي ليوم كذا ( تتبعها الرادفة ) ولم تدخل نون التوكيد ؛ لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل ، وقول أبي حاتم هو على التقديم والتأخير ، كأنه قال : ( فإذا هم بالساهرة ) ، ( والنازعات ) قال : خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام . وقيل : التقدير : ( ابن الأنباري يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ) ، ( والنازعات ) على التقديم والتأخير أيضا ، وليس بشيء . وقيل : الجواب : ( هل أتاك حديث موسى ) لأنه في تقدير قد أتاك ، وليس بشيء ، وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية ، وحذف الجواب هو الوجه ، ويقرب القول بحذف اللام من ( يوم ترجف ) . قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد : هما الصيحتان ، أي النفختان ، الأولى تميت كل شيء ، وفي الثانية تحيي . وقال مجاهد أيضا : الواجفة : الزلزلة ، والرادفة : الصيحة . وقال ابن زيد : الواجفة : الأرض ، والرادفة : الساعة ، والعامل في ( يوم ) اذكر مضمرة ، أو لتبعثن المحذوف ، واليوم متسع تقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك اليوم المتسع ، وتتبعها حال . قيل : أو مستأنف . واجفة : مضطربة ، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
إن بني حجبا وأسرتهم أكبادنا من ورائهم تجف
( قلوب ) : مبتدأ ، ( واجفة ) : صفة تعمل في ( يومئذ ) ، ( أبصارها ) : أي أبصار أصحاب القلوب ( خاشعة ) : مبتدأ وخبر في موضع خبر ( قلوب ) . وقال ابن عطية : رفع قلوب بالابتداء ، وجاز ذلك ، وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله : ( يومئذ ) . انتهى . ولا تتخصص الأجرام بظروف الزمان ، وإنما تخصصت بقوله : ( واجفة ) .
( يقولون ) : حكاية حالهم في الدنيا ، والمعنى : هم الذين يقولون . و ( الحافرة ) قال مجاهد : فاعلة بمعنى مفعولة . وقيل : على النسب ، أي ذات حفر ، والمراد القبور ، أي لمردودون أحياء في قبورنا . وقال : الحافرة : النار . وقيل : جمع حافرة بمعنى القدم ، أي أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض . وقال زيد بن أسلم : الحياة الثانية هي أول الأمر ، وتقول التجار : النقد في الحافرة ، أي في ابتداء السوم . وقال الشاعر : ابن عباس
آليت لا أنساكم فاعلموا حتى ترد الناس في الحافرة
وقرأ أبو حيوة ، ، وأبو بحرية : في الحفرة بغير ألف ، والجمهور : بالألف . وقيل : هما بمعنى واحد . وقيل : هي الأرض المنبتة المتغيرة بأجساد موتاها ، من قولهم : حفرت أسنانه إذا تآكلت وتغيرت . وقرأ وابن أبي عبلة عمر ، و أبي ، وعبد الله ، وابن الزبير ، ، وابن عباس ومسروق ، و مجاهد والأخوان وأبو بكر : ناخرة بألف ، وأبو رجاء والحسن ، ، والأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ، والسلمي ، ، وابن جبير والنخعي [ ص: 421 ] و قتادة ، وابن وثاب ، وأيوب وأهل مكة وشبل وباقي السبعة : بغير ألف ( قالوا تلك إذا ) : أي الردة إلى الحافرة إن رددنا ( كرة خاسرة ) : أي قالوا ذلك لتكذيبهم بالغيب ، أي لو كان هذا حقا ، لكانت ردتنا خاسرة ، إذ هي إلى النار . وقال الحسن : خاسرة : كاذبة ، أي ليست بكافية ، وهذا القول منهم استهزاء . وروي أن بعض صناديد قريش قال ذلك ( فإنما هي زجرة واحدة ) لما تقدم ( يقولون أئنا لمردودون ) : تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستضعاف أمرها ، فجاء قوله : ( فإنما ) مراعاة لما دل عليه استبعادهم ، فكأنه قيل : ليس بصعب ما تقولون ، فإنما هي نفخة واحدة ، فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض . قال : الساهرة أرض من فضة يخلقها الله تعالى . وقال ابن عباس : جبل وهب بن منبه بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس . وقال أبو العالية وسفيان : أرض قريبة من بيت المقدس . وقال : أرض ابن عباس مكة . وقال قتادة : جهنم ؛ لأنه لا نوم لمن فيها ، رأى أن الضمائر قبلها إنما هي للكفار ففسرها بجهنم . وقيل : الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق .
ولما أنكروا البعث وتمردوا ، شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقص تعالى عليه قصة موسى عليه السلام ، وتمرد فرعون على الله عز وجل حتى ادعى الربوبية ، وما آل إليه حال موسى من النجاة ، وحال فرعون من الهلاك ، فكان ذلك مسلاة لرسول الله وتبشيرا بهلاك من يكذبه ، ونجاته هو من أذاهم . فقال تعالى : ( هل أتاك ) توقيفا له على جمع النفس لما يلقيه إليه ، وتقدم الكلام في الوادي المقدس ، والخلاف في القراءات في ( طوى ) ، ( اذهب إلى فرعون ) : تفسير للنداء ، أو على إضمار القول ( فقل هل لك إلى أن تزكى ) : لطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم ، وتزكى : تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل ، والزكاة هنا يندرج فيها الإسلام وتوحيد الله تعالى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو بخلاف : تزكى وتصدى ، بشد الزاي والصاد ، وباقي السبعة بخفها ، وتقول العرب : هل لك في كذا ، أو هل إلى كذا ؟ فيحذفون القيد الذي تتعلق به إلى ، أي هل لك رغبة أو حاجة إلى كذا ؟ أو سبيل إلى كذا ؟ قال الشاعر :
فهل لكم فيها إلي فإنني بصير بما أعيا النطاسي حذيما
( وأهديك إلى ربك فتخشى ) هذا تفسير للتزكية ، وهي الهداية إلى توحيد الله تعالى ومعرفته . ( فتخشى ) أي تخافه ؛ لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وذكر الخشية ؛ لأنها ملاك الأمر ، وفي الكلام حذف ، أي فذهب وقال له ما أمره به ربه ، وأتبع ذلك بالمعجزة الدالة على صدقه ( فأراه الآية الكبرى ) وهي العصا واليد ، جعلهما واحدة ؛ لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها ، أو العصا وحدها لأنها كانت المقدمة والأصل ، واليد تبع لها ، لأنه كان يتقيها بيده ، وقيل له ( أدخل يدك في جيبك ) . ( فكذب ) : أي فرعون موسى عليه السلام ، وما أتى به من المعجز ، وجعل ذلك من باب السحر ( وعصى ) الله تعالى بعدما علم صحة ما أتى بهموسى ، وإنما أوهم أنه سحر ( ثم أدبر يسعى ) قيل : أدبر حقيقة ، أي قام من مكانه فارا بنفسه ، وقال الجمهور : هو كناية عن إعراضه عن الإيمان . ( يسعى ) : يجتهد في مكايدة موسى عليه السلام ( فحشر ) : أي جمع السحرة وأرباب دولته ( فنادى ) : أي قام فيهم خطيبا ، أو فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه ( فقال أنا ربكم الأعلى ) قال ابن عطية : قول فرعون ذلك نهاية في المخرقة ، ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم . انتهى .
وإنما قال ذلك لأن ملك مصر في زمانه كان إسماعيليا ، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم ، وكان أول من ملكها منهم المعز ابن المنصور ابن القائم ابن المهدي عبيد الله ، ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب [ ص: 422 ] الملعون بظهور ، رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيرا . الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن سادي
( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) قال : الآخرة قوله : ( ابن عباس ما علمت لكم من إله غيري ) والأولى قوله : ( أنا ربكم الأعلى ) وقيل العكس ، وكان بين قولتيه أربعون سنة . وقال الحسن ، وابن زيد : نكال الآخرة بالحرق ، والأولى - يعني الدنيا - بالغرق . وقال مجاهد : عذاب آخرة حياته وأولاها . وقال أبو رزين : الأولى كفره وعصيانه ، والآخرة قوله : ( أنا ربكم الأعلى ) . وقال مجاهد : عبارة عن أول معاصيه وآخرها ، أي : نكل بالجميع ، وانتصب ( نكال ) على المصدر والعامل فيه ( فأخذه ) لأنه في معناه وعلى رأي : بإضمار فعل من لفظه ، أي : نكل نكالا ، والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم . وقال المبرد : ( الزمخشري نكال الآخرة ) هو مصدر مؤكد ، ك ( وعد الله ) و ( صبغة الله ) كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى . انتهى . والمصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة ( إن في ذلك ) فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذة ( لعبرة ) لعظة ( لمن يخشى ) أي لمن يخاف عقوبة الله يوم القيامة وفي الدنيا .