هذه قصة لوط عليه السلام وقومه ، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام ، وكانت قرى لوط بنواحي الشام وإبراهيم ببلاد فلسطين .
فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط ، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده ، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه ، وكان مرورهم عليه لتبشيره بهذه البشارة المذكورة ، فظنهم أضيافا ، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل .
وقيل كانوا تسعة ، وقيل أحد عشر ، والبشرى التي بشروه بها هي بشارته بالولد ، وقيل بإهلاك قوم لوط ، والأولى أولى قالوا سلاما منصوب بفعل مقدر : أي سلمنا عليك سلاما قال سلام ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي أمركم سلام ، أو مرتفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف ، والتقدير : عليكم سلام فما لبث أي إبراهيم أن جاء بعجل حنيذ قال أكثر النحويين أن هنا بمعنى حتى : أي فما لبث حتى جاء ، وقيل : إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر ، والتقدير فما لبث عن أن جاء : أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل وما نافية قاله . سيبويه
وقال الفراء : فما لبث مجيئه : أي ما أبطأ مجيئه ، وقيل : إن ما موصولة وهي مبتدأ والخبر أن جاء بعجل حنيذ والتقدير : فالذي لبث إبراهيم هو مجيئه بعجل حنيذ ، والحنيذ : المشوي مطلقا ، وقيل : المشوي بحر الحجارة من غير أن تمسه النار ، يقال : حنذ الشاة يحنذها : جعلها فوق حجارة محماة لتنضجها فهي حنيذ ، وقيل معنى حنيذ : سمين ، وقيل الحنيذ هو السميط ، وقيل النضيج ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، وإنما جاءهم بعجل ، لأن البقر كانت أكثر أمواله .
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي لا يمدونها إلى العجل كما يمد يده من يريد الأكل [ ص: 665 ] نكرهم يقال : نكرته وأنكرته واستنكرته : إذا وجدته على غير ما تعهد ، ومنه قول الشاعر :
فأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فجمع بين اللغتين ، ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر :إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها خرجت مع البازي علي سواد
جاء البريد بقرطاس يحث به فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
وجملة وامرأته قائمة فضحكت في محل نصب على الحال ، قيل : كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر ، وقيل : كانت قائمة تخدم الملائكة وهو جالس ، والضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور .
وقال مجاهد وعكرمة : إنه الحيض ، ومنه قول الشاعر :
وإني لآتي العرس عند طهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا
وضحك الأرانب فوق الصفا كمثل دم الخوف يوم اللقا
وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت فبشرناها بإسحاق ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك .
وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير .
والمعنى : فبشرناها فضحكت سرورا بالولد .
وقرأ من قراء محمد بن زياد مكة فضحكت بفتح الحاء ، وأنكره المهدوي ومن وراء إسحاق يعقوب .
قرأ حمزة وابن عامر وحفص بنصب يعقوب على أنه مفعول فعل دل عليه فبشرناها ، كأنه قال : ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب .
وأجاز الكسائي والأخفش وأبو حاتم أن يكون يعقوب في موضع جر .
وقال الفراء : لا يجوز الجر إلا بإعادة حرفه .
قال : ولو قلت مررت بزيد أول من أمس ، وأمس عمر كان قبيحا خبيثا ، لأنك فرقت بين المجرور وما يشركه كما يفرق بين الجار والمجرور . سيبويه
وقرأ الباقون برفع يعقوب على أنه مبتدأ وخبره الظرف الذي قبله ، وقيل : الرفع بتقدير فعل محذوف : أي ويحدث لها ، أو وثبت لها .
وقد وقع التبشير هنا لها ، ووقع لإبراهيم في قوله تعالى : فبشرناه بغلام حليم [ الصافات 101 ] وبشروه بغلام عليم [ الذاريات 28 ] ، لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما .
وجملة قالت ياويلتى مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالت ؟ قال : أصلها يا ويلتي ، فأبدل من الياء ألف لأنها أخف من الياء والكسرة ، وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل ، ولكنها كلمة تقع كثيرا على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه ، وأصل الويل : الخزي ، ثم شاع في كل أمر فظيع ، والاستفهام في قولها : الزجاج أألد وأنا عجوز للتعجب : أي كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السن ، يقال : عجزت تعجز مخففا ومثقلا عجزا وتعجيزا : أي طعنت في السن ، ويقال : عجوز وعجوزة ، وأما عجزت بكسر الجيم : فمعناه عظمت عجيزتها ، قيل كانت بنت تسع وتسعين ، وقيل بنت تسعين وهذا بعلي شيخا أي وهذا زوجي إبراهيم شيخا لا تحبل من مثله النساء ، و شيخا منتصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة .
قال النحاس : وفي قراءة أبي شيخ بالرفع على أنه خبر المبتدأ ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وعلى الأول يكون بعلي بدلا من اسم الإشارة ، قيل : كان وابن مسعود إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة ، وقيل ابن مائة ، وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم .
وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل ، فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست منه لكبر سنها ، فبشرها الله به على لسان ملائكته إن هذا لشيء عجيب أي ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد مع كونها في هذه السن العالية التي لا يولد لمثلها - شيء يقضى منه العجب .
وجملة قالوا أتعجبين من أمر الله مستأنفة جواب سؤال مقدر ، والاستفهام فيها للإنكار : أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره ، وهو لا يستحيل عليه شيء ، وإنما أنكروا عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوة ، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه ، ولهذا قالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت أي الرحمة التي وسعت كل شيء والبركات وهي النمو والزيادة قيل الرحمة : النبوة ، والبركات : الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء ، وانتصاب أهل البيت على المدح أو الاختصاص ، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم إنه حميد أي يفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة مجيد كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات ، والجملة تعليل لقوله : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت .
قوله : فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي الخيفة التي أوجسها في نفسه ، يقال : ارتاع من كذا : إذا خاف ، ومنه قول النابغة :
[ ص: 666 ]
فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن حذر
قوله : يجادلنا في قوم لوط .
قال الأخفش : إن يجادلنا في موضع جادلنا ، فيكون هو جواب لما ، لما تقرر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل . والكسائي
قال النحاس : جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط ، وقيل : إن الجواب محذوف ، ويجادلنا في موضع نصب على الحال قاله الفراء ، وتقديره : فلما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا : أي يجادل رسلنا ، وقيل إن المعنى : أخذ يجادلنا ، ومجادلته لهم قيل إنه لما سمع قولهم : إنا مهلكو أهل هذه القرية [ العنكبوت 31 ] قال : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون ؟ قالوا : لا ، قال : فعشرون ؟ قالوا : لا ، ثم قال : فعشرة ؟ فخمسة ؟ قالوا : لا .
قال : فواحد ؟ قالوا : لا .
قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله [ العنكبوت 32 ] الآية ، فهذا معنى مجادلته في قوم لوط : أي في شأنهم وأمرهم .
ثم أثنوا على إبراهيم ، أو أثنى الله عليه فقال : إن إبراهيم لحليم أي ليس بعجول في الأمور ، ولا بموقع لها على غير ما ينبغي .
والأواه : كثير التأوه ، والمنيب : الراجع إلى الله .
وقد تقدم في براءة الكلام على الأواه .
قوله : ياإبراهيم أعرض عن هذا هذا قول الملائكة له : أي أعرض عن هذا الجدال في أمر قد فرغ منه ، وجف به القلم ، وحق به القضاء إنه قد جاء أمر ربك الضمير للشأن ، ومعنى مجيء أمر الله : مجيء عذابه الذي قدره عليهم ، وسبق به قضاؤه وإنهم آتيهم عذاب غير مردود أي لا يرده دعاء ولا جدال ، بل هو واقع بهم لا محالة ، ونازل بهم على كل حال ليس بمصروف ولا مدفوع .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال : كانوا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ورافائيل .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن في قوله : ابن عباس بعجل حنيذ قال : نضيج .
وأخرج عنه قال : مشوي . ابن أبي حاتم
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال : سميط .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك قال : الحنيذ الذي أنضج بالحجارة .
وأخرج عن ابن أبي حاتم يزيد بن أبي يزيد البصري في قوله : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه قال : لم ير لهم أيديا فنكرهم .
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : نكرهم قال : كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير ، وأنه يحدث نفسه بشر ، ثم حدثوه عند ذلك بما جاءوا فيه فضحكت امرأته .
وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال : في مصحف وامرأته قائمة وهو جالس . ابن مسعود
وأخرج عن ابن أبي حاتم مجاهد وامرأته قائمة قال : في خدمة أضياف إبراهيم .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : لما أوجس إبراهيم في نفسه خيفة حدثوه عند ذلك بما جاءوا فيه ، فضحكت امرأته تعجبا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس فضحكت قال : فحاضت وهي بنت ثمان وتسعين سنة .
وأخرج عن ابن جرير مجاهد في قوله : فضحكت قال : حاضت وكانت ابنة بضع وتسعين سنة ، وكان إبراهيم ابن مائة سنة .
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال : حاضت .
وأخرج أبو الشيخ عن مثله . ابن عمر
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ومن وراء إسحاق يعقوب قال : هو ولد الولد .
وأخرج في كتاب الوقف والابتداء عن ابن الأنباري حسان بن أبجر قال : كنت عند فجاء رجل من ابن عباس هذيل ، فقال له : ما فعل فلان ؟ قال : مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء ، فقال ابن عباس : ابن عباس فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قال : ولد الولد .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب من طرق عن أنه كان ينهى عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ويتلو هذه الآية ابن عباس رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت .
وأخرج البيهقي عن نحوه . ابن عمر
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : فلما ذهب عن إبراهيم الروع قال : الفرق لوط يجادلنا في قوم قال : يخاصمنا .
وأخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ عن قتادة في تفسير المجادلة قال : إنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين ؟ قالوا : إن كان فيهم خمسون لم نعذبهم ، قال : أربعون ؟ قالوا : وأربعون ، قال : ثلاثون ؟ قالوا : وثلاثون حتى بلغوا عشرة ، قالوا : إن كان فيهم عشرة لم نعذبهم ، قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ؟ قال قتادة : إنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قال : لما جاءت الملائكة إلى ابن عباس إبراهيم قالوا لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب .
وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن ميمون قال : الأواه الرحيم .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : المنيب المقبل إلى طاعة الله . ابن عباس
وأخرج عن ابن أبي حاتم قتادة قال : المنيب المخلص .