الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5503 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثني جويرية عن نافع عن عبد الله أن عمر رضي الله عنه رأى حلة سيراء تباع فقال يا رسول الله لو ابتعتها تلبسها للوفد إذا أتوك والجمعة قال إنما يلبس هذه من لا خلاق له وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء حرير كساها إياه فقال عمر كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت فقال إنما بعثت إليك لتبيعها أو تكسوها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني قوله : ( جويرية ) بالجيم والراء مصغرا وبعد الراء تحتانية مفتوحة .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 311 ] قوله : ( عن عبد الله ) هو ابن عمر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن عمر رأى حلة سيراء ) هكذا رواه أكثر أصحاب نافع ، وأخرجه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه " رأى حلة " فجعله في مسند عمر . قال الدارقطني : المحفوظ أنه من مسند ابن عمر . وسيراء تقدم ضبطها وتفسيرها في الحديث الذي قبله . ووقع في رواية مالك عن نافع كما تقدم في كتاب الجمعة أن ذلك كان على باب المسجد ، وفي رواية ابن إسحاق عن نافع عند النسائي " أن عمر كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السوق فرأى الحلة " ولا تخالف بين الروايتين ، لأن طرف السوق كان يصل إلى قرب باب المسجد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تباع ) في رواية جرير بن حازم عن نافع عند مسلم " رأى عمر عطاردا التميمي يقيم حلة بالسوق ، وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم " وأخرج الطبراني من طريق أبي مجلز عن حفصة بنت عمر " أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى ، فقال عمر : ألا أشتريه لك يا رسول الله " ؟ ومن طريق عبد الرحمن بن عمرو بن معاذ عن عطارد نفسه أنه أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب ديباج كساه إياه كسرى ، والجمع بينهما أن عطاردا لما أقامه في السوق ليباع لم يتفق له بيعه فأهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وعطارد هذا هو ابن حاجب بن زرارة بن عدس بمهملات الدارمي يكنى أبا عكرشة بشين معجمة ، كان من جملة وفد بني تميم أصحاب الحجرات ، وقد أسلم وحسن إسلامه واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات قومه ، وكان أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية ، وقصته مع كسرى في رهنه قوسه عوضا عن جمع كثير من العرب عند كسرى مشهورة حتى ضرب المثل بقوس حاجب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لو ابتعتها فلبستها ) في رواية سالم عن ابن عمر كما تقدم في العيدين " ابتع هذه فتجمل بها " وكان عمر أشار بشرائها وتمناه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( للوفد إذا أتوك ) في رواية جرير بن حازم " لوفود العرب " وكأنه خصه بالعرب لأنهم كانوا إذ ذاك الوفود في الغالب ، لأن مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم فكانت كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا ويتعلموا ويرجعوا إلى قومهم فيدعوهم إلى الإسلام ويعلموهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( والجمعة ) في رواية سالم " العيد " بدل " الجمعة " وجمع ابن إسحاق عن نافع ما تضمنته الروايتان ، أخرجه النسائي بلفظ " فتجمل بها لوفود العرب إذا أتوك ، وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنما يلبس هذه ) في رواية جرير بن حازم إنما يلبس الحرير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من لا خلاق له ) زاد مالك في روايته في الآخرة . والخلاق النصيب وقيل : الحظ وهو المراد هنا ، ويطلق أيضا على الحرمة وعلى الدين ، ويحتمل أن يراد من لا نصيب له في الآخرة أي من لبس الحرير قاله الطيبي ، وقد تقدم في حديث أبي عثمان عن عمر في أول حديث من " باب لبس الحرير " ما يؤيده ولفظه لا يلبس الحرير إلا من ليس له في الآخرة منه شيء .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء ) زاد الإسماعيلي من هذا الوجه ، " بحلة سيراء من حرير " ومن بيانية وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كساها إياه ) كذا أطلق ، وهي باعتبار ما فهم عمر من ذلك ، وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه [ ص: 312 ] لم يبعث إليه بها ليلبسها ، أو المراد بقوله كساه أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة ، وفي رواية مالك الماضية في الجمعة " ثم جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها حلل فأعطى عمر حلة " وفي رواية جرير بن حازم " فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة " وعرف بهذا جهة الحلة المذكورة في حديث علي المذكور أولا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال عمر كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت ) في رواية جرير بن حازم " فجاء عمر بحلته يحملها فقال : بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت " والمراد بالأمس هنا يحتمل الليلة الماضية أو ما قبلها بحسب ما اتفق من وصول الحلل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قصة حلة عطارد ، وفي رواية محمد بن إسحاق " فخرجت فزعا فقلت : يا رسول الله ترسل بها إلي وقد قلت فيها ما قلت " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها ) في رواية جرير لتصيب بها وفي رواية الزهري عن سالم كما مضى في العيدين تبيعها وتصيب بها حاجتك وفي رواية يحيى بن إسحاق عن سالم كما سيأتي في الأدب لتصيب بها مالا وزاد مالك في آخر الحديث " فكساها عمر أخا له بمكة مشركا " زاد في رواية عبيد الله بن عمر العمري عند النسائي " أخا له من أمه " وتقدم في البيوع من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر " فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم " قال النووي هذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك . قلت : ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال في " المبهمات " نقلا عن ابن الحذاء في رجال الموطأ فقال : اسمه عثمان بن حكيم ، قال الدمياطي : هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص ، قال : وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه . فمن أطلق عليه أنه أخو عمر لأمه لم يصب . قلت : بل له وجه بطريق المجاز . ويحتمل أن يكون عمر ارتضع من أم أخيه زيد فيكون عثمان أخا عمر لأمه من الرضاع وأخا زيد لأمه من النسب . وأفاد ابن سعد أن والدة سعيد بن المسيب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم ، ولم أقف على ذكره في الصحابة ، فإن كان أسلم فقد فاتهم ، فليستدرك ، وإن كان مات كافرا وكان قوله : " قبل أن يسلم " لا مفهوم له ، بل المراد أن البعث إليه كان في حال كفره مع قطع النظر عما وراء ذلك ، فلتعد بنته في الصحابة . وفي حديث جابر الذي أوله " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في قباء حرير ثم نزعه فقال : نهاني عنه جبريل " كما تقدم التنبيه عليه في أوائل كتاب الصلاة زيادة عند النسائي وهي " فأعطاه لعمر ، فقال : لم أعطكه لتلبسه بل لتبيعه ، فباعه عمر " وسنده قوي وأصله في مسلم ، فإن كان محفوظا أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه بعد أن أهداه له ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : وجه إدخال هذا الحديث في " باب الحرير للنساء " يؤخذ من قوله لعمر لتبيعها أو تكسوها لأن الحرير إذا كان لبسه محرما على الرجال فلا فرق بين عمر وغيره من الرجال في ذلك فينحصر الإذن في النساء ، وأما كون عمر كساها أخاه فلا يشكل على ذلك عند من يرى أن الكافر مخاطب بالفروع ويكون أهدى عمر الحلة لأخيه ليبيعها أو يكسوها امرأة ، ويمكن من يرى أن الكافر غير مخاطب أن ينفصل عن هذا الإشكال بالتمسك بدخول النساء في عموم قوله أو يكسوها أي إما للمرأة أو للكافر بقرينة قوله : إنما يلبس هذا من لا خلاق له أي من الرجال . ثم ظهر لي وجه آخر وهو أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكورة فقد أخرج الحديث المذكور الطحاوي من رواية أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر قال : " أبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عطارد حلة فكرهها له ثم إنه كساها عمر مثله " الحديث ، وفيه إني لم أكسكها [ ص: 313 ] لتلبسها إنما أعطيتكها لتلبسها النساء واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير الصرف بناء على أن الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صرف ، قال ابن عبد البر : هذا قول أهل العلم ، وأما أهل اللغة فيقولون : هي التي يخالطها الحرير ، قال : والأول هو المعتمد . ثم ساق من طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب وفيه " حلة من حرير " وقال ابن بطال : دلت طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض ، ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر " أن عمر قال : يا رسول الله ، إني مررت بعطارد يعرض حلة حرير للبيع " الحديث أخرجه أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ . قلت : وتقدم في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " حلة حرير أو سيراء " ، وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم " حلة من إستبرق " وقد فسر الإستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج ، أخرجه المصنف في الأدب من طريق يحيى بن إسحاق قال : " سألني سالم عن الإستبرق فقلت : ما غلظ من الديباج ، فقال : سمعت عبد الله بن عمر " فذكر الحديث . ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة " حلة من سندس " قال النووي : هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريرا محضا قلت : الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريرا صرفا وقد تكون غير محض ، فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض ولهذا وقع في حديثه إنما يلبس هذه من لا خلاق له ، والتي في قصة علي لم تكن حريرا صرفا لما روى ابن أبي شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن علي قال : " أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها . فأرسل بها إلي فقلت : ما أصنع بها ، ألبسها ؟ قال : لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي ، ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم " وقد أخرجه أحمد وابن ماجه من طريق ابن إسحاق عن هبيرة فقال فيه : " حلة من حرير " وهو محمول على رواية أبي فاختة وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف ، ثقة ، ولم يقع في قصة علي وعيد على لبسها كما وقع في قصة عمر ، بل فيه لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير أولى من لبسه عند من يقول بجوازه والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية