الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ويهدي إليه من ينيب ) وهو كما روي في الخبر من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة أي : من أقبل بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي ؛ بأن أشرح له صدره وأسهل أمره .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه ، كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟ فأجاب الله تعالى عنهم بقوله ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة ، فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبيعية على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه ؛ طلبا للذكر والرياسة ، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف ، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل ، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب ، لأن لكل عذاب عنده أجلا مسمى ، أي وقتا معلوما ، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا ، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة ، وهو معنى قوله ( ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ) ، والأجل المسمى قد يكون في الدنيا ، وقد يكون في القيامة ، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة ، من هم ؟ فقال الأكثرون : هم اليهود والنصارى ، والدليل : قوله تعالى في آل عمران ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) [آل عمران : 19] وقال في سورة " لم يكن " ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) [البينة : 4] ، ولأن قوله ( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) لائق بأهل الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال آخرون : إنهم هم العرب ، وهذا باطل للوجوه المذكورة ؛ لأن قوله تعالى بعد هذه الآية ( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ) لا يليق بالعرب ، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لفي شك منه ) من كتابهم ( مريب ) لا يؤمنون به حق الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ) يعني : فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين - فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية ، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله ، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة ( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ) أي بأي كتاب صح أن الله أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة ؛ لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ونظيره قوله ( نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) [النساء : 150] إلى قوله ( أولئك هم الكافرون ) [النساء : 151] ثم قال : ( وأمرت لأعدل بينكم ) أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي ، قال القفال : معناه : أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله ، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه ، لكني أسوي بينكم وبين نفسي ، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير ) [ ص: 137 ] والمعنى أن إله الكل واحد ، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه ، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه ، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله ، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه ، فإن قيل : كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء ؟ قلنا : هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ، ودخل فيه التوحيد وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبصحة البعث والقيامة ، فلما لم يقبلوا هذا الدين ، فحينئذ فات الشرط ، فلا جرم فات المشروط .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية