الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي

فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي

فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي

قال تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} (البقرة:196) هذه الجملة من الآية معطوفة على صدر الآية: {وأتموا الحج والعمرة لله} فبعد أن أمر سبحانه بإتمام الحج والعمرة، شرع في بيان حكم الموانع التي تحول دون إتمام النسك، فقال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} و"الإحصار" لغة: هو المنع مطلقًا، قال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} (البقرة:273) أي: مَنَعَهُمُ الفقر من الخروج للجهاد في سبيل الله.

وقد اختلف أهل العلم في مسألة إحصار المحرم، هل يختص الحصر بالعدو فحسب، فلا يتحلل المحرم إلا إذا حصره العدو، أم أن الحصر يشمل كل مانع من عدو وغيره؛ وهم في ذلك على قولين:

الأول: يرى أن الحصر لا يكون إلا من العدو، فأما من أصابه مرض أو فقد نفقته، أو أضل طريقه...فلا يُعدُّ ذلك إحصارًا، وليس هو بمحصر، وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، والزهري وآخرين، رحمهم الله.

والثاني: يرى أن الحصر أعم من أن يكون بعدو، بل يكون الإحصار بكل مانع يمنع المحرم من إتمام ما شرع به من نسك؛ وقد أيَّد أصحاب هذا القول ما ذهبوا إليه بما رواه أحمد في "مسنده" عن الحجاج بن عمرو الأنصاري ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كُسر أو وُجع أو عَرج فقد حلَّ وعليه حجة أخرى)، قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما، فقالا: صدق. أخرجه أصحاب السنن. قال الثوري: الإحصار يكون من كل شيء آذاه، من عدو وغيره.

وقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي} استيسر هنا بمعنى يسَّر، أي ما أمكن، والمراد به جميع وجوه التيسر. والمقصود بـ {الهدي} الإبل والبقر والمعز والضأن؛ والذي ذهب إليه جمهور أهل العلم، أن الواجب في حال الإحصار شاة على كل محصَر، ويمكن أن يشترك سبعة أشخاص في ناقة أو بقرة. وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى.

ووجه ذلك، أن المقصود من تقديم الهدي حال الإحصار تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت مناسك الحج لمانع، فلا يفوت ما يُمنح لفقراء مكة ومن حولها.

وقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (البقرة:196) قوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} معطوف على قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} وليس معطوفًا على قوله: {فإن أحصرتم}.

و"المَحِلُّ" مكان الحلول أو زمانه، يقال: حلَّ بالمكان يَحِلُّ، بكسر الحاء: وهو مقام الشيء، والمراد هنا مبلغه. والمعنى: لا يحل لمن دخل في أعمال الحج أو العمرة وأحرم بهما أن يحلق إلى أن يفرغ من أفعال الحج والعمرة.

وقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه} (البقرة:196) المراد بالمرض في الآية، المرض الذي يستدعي حلق الرأس، سواء أكان المرض بالجسد أم بالرأس. وقوله سبحانه: {أو به أذى من رأسه} كناية عن الوسخ الشديد والقمل، الذي يؤذي الرأس. وفي البخاري من حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، قال: حُمِلْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: (ما كنتُ أرى الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك) فنـزلت هذه الآية فيَّ خاصة، وهي لكم عامة.

ومن لطائف القرآن الكريم، تَرْكُ التصريح بما هو غير لائق من الألفاظ، وذلك واضح في قوله تعالى: {أذًى} فهو كناية عما يصيب رأس المحرم من حشرات مؤذية، كالقمل ونحوه.

وقوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة:196) ذكر سبحانه في هذه الآية الجزاء المترتب على حلق المحرم شعره، قبل فراغه من أعمال الحج، وجَعَلَ الجزاء على سبيل الاختيار؛ لأن (أو) كما يقول أهل اللغة، تفيد التخيير بين أمرين أو أكثر. ورويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، قوله: إذا كان (أو) فأيَّهْ أخذتَ أجزأ عنك. وهذا الذي رُوي عن ابن عباس هو ما عليه جمهور أهل العلم، إذ قالوا: يُخيَّر المحرم في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء ذبح شاة، وإن شاء أطعم، أيَّ ذلك فعل أجزأه.

ثم إن حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه المتقدم، قد بيَّن قدر الصيام والإطعام؛ فإما أن يصوم ثلاثة أيام، أو يُطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يذبح شاة، وهذه الفدية تُسمى عند الفقهاء فدية الأذى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة