الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اختيار البطانة الصالحة

اختيار البطانة الصالحة

اختيار البطانة الصالحة

سواء أكنت رئيساً أم مرؤوسا، مأموراً أم آمراً، فلا بد أن يكون لك أصحاب تقربهم إليك، وتستأنس بهم، وتشاورهم في كثير من أمورك، وهؤلاء هم بطانتك، وقد غلب استعمال لفظ ( البطانة ) مع الأمراء، وقد فسّر ابن حجر البطانة: بالدخلاء، جمع دخيل: ( وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، يفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه).

كثيراً ما نرى من أهل الصلاح من يزلّ زلات، إنما استدرجته إليها بطانة فاسدة، زينت له الباطل، وحجبت الحق عن عينيه، ومسؤولية أحدنا تبدأ من حسن الاختيار للأصحاب، فالصاحب دليل على صاحبه، إذ أن النفوس المتماثلة تتجاذب فيما بينها، كما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" لأن أية صحبة لا تخلو من تأثير وتأثّر، وقد كان سلف الأمة يحرصون على الأنس بالجليس الصالح، والصاحب التقي، الذي يعين على الخير، ويزيل وحشة الغربة، وقد ورد عن علقمة أنه حين قدم الشام غريبا دعا: ( اللهم يسرّ لي جليسا صالحا) لأن الجليس الصالح يذكّرك إذا غفلت، ويعينك إذا تذكرت.

والرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه ما من نبي، ولا خليفة، إلا ويقع بين دواعي بطانتين: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه". وفي رواية: " وبطانة لا تألوه خبالا"، وإذا أردت أن تحتاط لأمر دينك، فمن البداية خذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار صالحي المؤمنين لبطانتك: " لا تصاحب إلا مؤمنا " ثم لاحظ ما تراه من حرص أخيك على جلب الخير إليك، وعلى اتّقاء مساءتك، فإن أفضلهم صحبة _ كما في الحديث ـ أكثرهم حرصا على جلب الخير إليك: " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه".

وأولى الناس بالتقريب، هم أهل العلم والصلاح، ولذلك فقد كانت بطانة عمر رضي الله عنه من القراء، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ـ كهولاً كانوا أو شبابا ـ )

وكلما كانوا من أهل العلم والتقوى كنت أبعد عن الزلل ـ بإذن الله ـ وقد توج البخاري أحد أبواب صحيحه بقوله: ( وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم..) وفي فاتحة باب آخر ينقل عن علي وشريح قولهما في المرأة التي تدعي أنها حاضت في شهر ثلاثا: ( إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ـ ممن يُرضى دينه ـ .. صُدّقت.)

فالمقياس صلاح دين الرجل، وليست معايير الطين والمادة، والذوبان في شخصية الصاحب.

وإن كتمان العيوب عن الصاحب خيانة، والكيد لوقيعة من اصطفاك لبطانته جريمة، ورسولنا صلى الله عليه وسلم استعاذ من ذلك: ".. وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"، وحين سأل ابن مسعود عن أيام الهرج متى تكون؟ أجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبرز فتن هذه الأيام، فقال: " حين لا يأمن الرجل جليسه " فهذا أمر يحتاج إلى التحري والاصطفاء البعيد عن الهوى؛ حتى يجد المرء من يأمنه، ومن يطمئن لصحبته.

ومن مزايا البطانة ـ إذا صلحت ـ أنها تحول دون شر كبير، وتحض على خير كثير، ومن خطورة البطانة ـ إذا فسدت ـ أنها قد تحسّن القبيح، أو تقبّح الحسن؛ بالوسوسة والتظاهر بالإخلاص، وقد وصف أشهب بطانة الحاكم بقوله: ( وليكن ثقة مأموناً فطناً عاقلاً، لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به, إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك).

وقد رأينا في واقعنا أناساً خاصموا وفجروا وقاطعوا وهجروا .. بتحريض بطانة حرَّكت الغضب للذات، وأبدت الحرص على صاحبها، والهيام فيه، أكثر من عصبيته لنفسه، فاستعظم الرجل نفسه، وهوى في شباك وساوس شياطين الإنس، فعادى الناس وشاتمهم مع ما يُعرف من صلاحه الشخصي.

فالجليس الصالح كحامل المسك، وقد تكون الريح الطيبة التي تجدها منه كلمة حق صريحة, فيجب أن تلقى منك تجاوباً وتقديراً، لأن مبعثها الإخلاص للحق، ومن شواهد ذلك أن عبادة بن الصامت حدّث بحديث استنكره معاوية؛ لأنه لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبادة: ( لنحدِّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية).

ومن ثمرات البطانة الصالحة: المشورة بالرشد والسداد للرأي، لأن الأصل في المستشار الأمانة، والإشارة بالأصلح، لقوله صلى الله عليه وسلمن: " المستشار مؤتمن"، وفي الحديث: " من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه"، فانظر فيمن وثقت، وبمن استرشدت، فكل امرئ يحشر مع بطانته المختارة، لأن " المرء مع من أحب " ـ كما أخبر صلى الله عليه وسلم ـ ومن بركة البطانة الصالحة أنها سبب لأن تعمك الرحمة بينهم، وإن لم تكن بمنزلتهم، فقد جاء في الحديث أن الله يشهد ملائكته بأنه يغفر لقوم جلسوا يذكرون الله، فيقول ملك: فيهم فلان ليس منهم، وإنما جاء لحاجة، فيقول الله عز وجل: ( هم الجلساء؛ لا يشقى بهم جليسهم )، وتلك من بركات صحبة أهل الخير.

فإن كانت لك بطانة فأحسن اختيارها، واعمل بما يشيرون عليك من الخير، وإن كنت بطانة لغيرك فكن صريحاً صادقاً أميناً، وأشر بكل خير.

وبالتزام خلق ( اصطفاء البطانة ) تسقط الأقنعة الكاذبة، وتتكشف الحقائق، ويتميز كل فريق بأهل وده وأصحاب خلته، فانظر من تخالل.

ــــــــــــــــ
هذه أخلاقنا

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة