الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإيمان والعمل

الإيمان والعمل

الإيمان والعمل

ملكــنا هــذه الدنيــا قرونا .. ... .. وأخضعــها جـــدود خالــدونا
وسطرنا صحائف من ضياء .. ... .. فما نسى الزمان ولا نسينا
حملـــناها سيــوفا لامعـات .. ... .. غداة الــروع تأبى أن تلـــينا
إذا خرجت من الأغماد يوما.. ... .. رأيت الهـول والفـتح المبينا
وكـــنا حين يرمــينا أنـــاس .. ... .. نؤدبــهم أبـــاة قــادريــــــنا
وكـــنا حين يأخـــــذنا غـوي .. ... .. بطغيان ندوس له الجبــينا
تفيض قلوبنا بالهدي بأسـا .. ... .. فما نغضي عن الظلم الجفونا
وما فتئ الزمان يدور حتى .. ... .. مضى بالمجـد قـوم آخـرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي .. .. وقـد عاشـوا أئـمته سـنـينا
وآلمــني وآلــم كـــل حـــر .. ... .. سؤال الدهر أين المســلمون؟
ترى هـل يرجع الماضي فإني .. ... أذوب لـذلك الماضي حـنـينا

إن هذه الأبيات تحكي لنا باختصار شديد حياة أمتنا والتباين بين ماضيها وحاضرها ماضيها المجيد التليد بكل ما فيه من عز ومجد ومفاخر ومآثر، وحاضرها العجيب بكل ما فيه من ضعف وخور وانكسار وهزائم.
والسؤال كيف هوت أمتنا من هذه لقسمة السامقة إلى هذه الهوة السحيقة؟ كيف انتقلت من هذا الماضي العظيم إلى ذلك الواقع الأليم؟

لا شك أن هذا الهبوط وذاك التحول لم يكن فجأة، وإنما أخذ وقتا طويلا دام قرابة 13 قرنا من الزمان، ولا شك أيضا أنه ما أتى فلتة، وإنما كانت له أسباب وعوامل ومعاول هدم أدت إليه.. منها: أمراض داخلية ما زالت تنخر في جسد الأمة حتى أنهكته، وسهام غدر خارجية وجهت لها من الأعداء أثخنت هذا الجسد المنهك حتى أسقطته.. اجتمعت كلها لتؤدي في النهاية إلى تلك النتيجة.

فكر ضال وفهم سقيم:
غير أنه ـ في نظري ـ كان من أخطر هذه الأمراض: تغير مفهوم الإيمان ومعنى الإسلام ودلالات لا إله إلا الله وتفريغها عن معانيها ومقاصدها، وكان بداية ذلك عندما ظهر ما يسمى بالفكر الإرجائي، بمعنى إرجاء العمل عن مسمى الإيمان، حيث جعل الإيمان مجرد تصديق القلب ولا دخل للعمل فيه، فعندهم يمكن أن يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان وإن لم يعمل خيرا قط، بل وظهر منهم من قال في النهاية: "لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة".. فزهدوا الناس في فعل العبادات، والسعي في الخيرات، والجد والاجتهاد، وهونوا عليهم فعل السيئات، والوقوع في الخطيئات.. ولم لا وهذا كله لا يضر مع الإيمان؟!!

والحقيقة أن هذه البدعة وذلك التطرف في التهاون إنما كان ردة فعل لبدعة سبقته وللتطرف في التشدد الذي قال به الخوارج، حين كفروا فاعل الكبيرة وقالوا: هو مخلد في النار إن مات ولم يتب. وكلا الفريقين ضال، وكلا القولين باطل، وكلا الفهمين سقيم.

وأهل السنة أهل العلم والأثر، وأهل الفقه والنظر، وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.. قالوا رحمهم الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.. قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.. يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.. هكذا نقل الإجماع عنهم، وقد قال سيد المحدثين الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "لقيت أكثر من ألف شيخ ما منهم من أحد إلا ويقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص".
ولا يقولون لا يضر مع الإيمان معصية، بل المعاصي تضعف الإيمان، وتمرض القلب، وربما تزيد عليه فتقتله "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون".
أما صاحب الكبيرة فهو موحد عاص، إن تاب قبل موته تاب الله عليه، وإن مات مصرا، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أدخله بعد ذلك الجنة، وإن شاء غفر له ابتداء وتاب عليه {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.

شيء لم يخطر بالبال:
ما أظن أن أصحاب هذا الفكر وهم يناظرون عليه ويقررونه كانوا يعتقدون أنه سيكون له هذا الأثر المدمر على الأمة.
ولا أظن أنه خطر ببال أحدهم أنه سيأتي اليوم الذي يترك فيه منتسبون إلى الإسلام الصلاة والصوم والعبادات ويقعون في المعاصي والسيئات ثم إذا أمرت أحدهم بالصلاة ونهيته عن معصيته قال لك: "دعك من هذا كله.. المهم القلب، طالما هذا نظيف "خلاص" يعني قلبه!!!.

ولا أظن أنه خطر ببال أحدهم أنه سيأتي اليوم الذي يكتب فيه منتسب إلى الإسلام أنه لم يركع لله ركعة منذ خمسين سنة، ومع ذلك فهو متأكد من أن الله سيدخله الجنة ولن يعذبه، لماذا؟ هل لأنه تاب وأناب وسيصلى؟ لا.. لم ولن يفعل.. ولكن سيبقى على هذا الحال وسيدخله الله الجنة؛ لأن الله غفور رحيم، "هكذا قال"!!!

والأمثلة كثيرة.. أساء الناس العمل وأتوا بالعظائم ومع ذلك فقلوبهم مطمئنة أنهم من أهل الجنة ولن يلجوا النار.. وقد وصف الحسن أمثال هؤلاء فقال: إن قوما أساءوا العمل، وقالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا .. لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

أكبر جناية
إن قطع الصلة بين الإيمان والعمل هو أكبر جناية على هذا الدين، لأن المسلم حينئذ لن يظهر عليه أي أثر لهذه العقيدة التي يحملها بين جنبيه.

إننا حين نقدم للناس دينا بلا عمل فنحن نقدم لهم في الحقيقة دينا نظريا لا أثر له على سلوك أصحابه ولا في واقع حياتهم. وهذا خروج بلا إله إلا الله عن معناها ومقصودها الحقيقي، فبدلا من أن تكون منهاج حياة متكامل يجلب السعادة لمتبعيه، إذ بها تتحول إلى مجرد كلمة تقال باللسان، أو مجرد شيء يقر في القلب دون أن يكون له أي وجود في الحياة الخارجية والواقع العملي، وهذا تخلف في مفهوم العقيدة عظيم.

وكل تخلف أصاب الأمة كان سببه ومرده إلى إهمال العمل والتقليل من قيمته في هذا الدين..
فالتخلف الأخلاقي والحضاري مرده إلى ترك العمل بأخلاقيات لا إله إلا لله؛ حين يعتقد المسلم أنه غير ملزم بالعمل بتلك الأخلاقيات، وأنه لا أثر لها في إيمان صاحبها، فلا غضاضة عنده حينئذ في أن يكذب، وأن يغش، وأن يخون الأمانة، وأن ينافق ويغمز ويلمز، وأن يسرق، وأن يرتشي، وأن يتهاون في عمله، وأن ، وأن .. فيفقد بذلك الأخلاقيات الإسلامية والقيم الإنسانية التي هي جوهر الحضارة.

والتخلف الاقتصادي كذلك سببه هذا الفهم الشائه؛ إذ عماد الاقتصاد هو العمل والإنتاج والسعي في تحسين المنتج ليصلح للاستعمال والتصدير لرفع المستوى الاقتصادي.. والنكوص عن العمل أو التهاون فيه، أو عدم تحسينه وإتقانه يهدم كل نية في تحسن الوضع الاقتصادي ومنافسة الآخرين.

والتخلف الثقافي والفكري، الذي يعتمد على إعمال العقل والابتكار لن يكون له وجود؛ لأن العقول ستتوقف عن العمل كما توقفت قبلها الجوارح.. ولماذا تعمل طالما أن تعطيلها لن يعود على الإيمان بأي نقص.

ولا شك أن العاقبة هي تخلف في المستوى العسكري بالطبع، فيتفوق أعداؤنا علينا في قوتهم العسكرية، ويتسلطون علينا بهذا التفوق، وتسقط بلاد الإسلام واحدة تلو الأخرى في براثن الاحتلال الصليبي أو اليهودي أو المجوسي أو حتى الملحد.. وكل هذا بسبب هذا الفكر السقيم والفهم العليل.

العمل في الإسلام:
إن الحقيقة التي لا يمكن لمسلم يعرف معنى الإيمان أو مقاصد الإسلام إنكارها، أن العمل في هذا الدين له أهمية قصوى، وأن كل شيء في ديننا يدلل على أهميته واعتباره وأثره في دنيا العباد وآخرتهم.. وهذا كتاب الله يدلل على ذلك بطرق عديدة.. منها:
أولا: أنه لا عقيدة بدون أثر:
بل كل عقيدة وجدت في قلب صاحبتها ـ وإن كانت باطلة ـ فلابد من أن ينفعل لها، ويتأثر بها، ويعمل من أجلها.. قال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم}، وقال: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام}، وقال: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}.
فعقيدتهم الكفرية جعلتهم يتحركون ويعملون في الصد عن سبيل الله وعن بيته وعن دينه، وينفقون أمولاهم في سبيل هذا الأمر، وهكذا من كان يؤمن بالله ينبغي أن يعمل لنصرة عقيدته {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل}، {يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.

ثانيا: التلازم بين العمل و الإيمان:
فلا تكاد تجد في القرآن ذكر الإيمان إلا ومعه ذكر العمل، أو قبله أو بعده.. قال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}، وقال: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار}، وقال: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، وقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وقال: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.

ثالثا: ترتيب الجزاء على العمل ثوابا وعقابا:
فقال للكافرين: {يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}. وقال للمؤمنين: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}، وقال: {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا}.

رابعا: أن كل مقاصد القرآن تخالف هذا المفهوم:
فالله تعالى جعل مسئولية المسلمين إخراج البشرية كلها من الظلمات إلى النور بمقتضى الكتاب المنزل فقال سبحانه: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}. فكيف نخرجهم من ظلام الكفر إلى نور الهداية ونحن قعود بلا عمل؟.

وهو سبحانه أنزل القرآن لإقامة العدالة في الأرض ورفع الظلم عنها: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} وإقامة العدل لابد فيها من منع الظلم والأخذ على يد الظالم لدفعه عن ظلمه، وهذا لابد فيه من أمر ونهي ومجاهدة وربما جهاد أيضا.

والله سبحانه جعل صلاح الأرض بالمدافعة بين أهل الحق وأهل الباطل {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، ولو توقفت هذه المدافعة لفسدت الأرض ولهدمت الصوامع والبيع والصلوات والمساجد التي يذكر فيها اسم الله، وهذه المدافعة لا يمكن أن تكون مع جلوس أهل الحق وعدم انبعاثهم لنصرة الحق ودفع الباطل وأهله.

ثم إن القرآن الكريم يحدثنا عن الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، والذين زعموا أن لله ولدا، والذين اعتقدوا فيه الاعتقادات الباطلة.. وخاطب المسلمين بحال هؤلاء مع أن عقيدة الإسلام بعيدة كل البعد عن هذا، ولا يوجد مسلم صحيح الإيمان يقول بهذا أو ينسب إلى الله ذلك.. فكان خطاب الله لهم في حقيقته دعوة لهم أن يبحثوا عن هؤلاء الضالين ليجادلوهم ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة لترك هذه الاعتقادات الباطلة. فإذا قعد المؤمنون عن ذلك فمن الذي يقوم به.

إن هذا الفكر دخيل على الإسلام وغريب عنه، ولو اعتقده الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين، بل وبقية الأمة لما انتشر إسلام ولا عرف إيمان ولا خرج هذا الدين من مكة، ولا جاهدوا من أجل نصرته وتبليغه لعباد الله في الآفاق ولتوقف عند أول محطة له.

فنسأل الله أن يقي العباد شر سوء الفهم، وقلة العلم، وعدم العمل. آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة