الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

منشأ الخلل في الإيمان بالقدر والعلاج النبوي له

منشأ الخلل في الإيمان بالقدر والعلاج النبوي له

منشأ الخلل في الإيمان بالقدر والعلاج النبوي له

مِنَن الله سبحانه وتعالى على عباده كثيرة، إلا أن أعظمها هو المنّة الحاصلة بإرسال النبي داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (آل عمران:164)، وبهذه الآيات المتلوّة ، تمكّن الصحابة رضوان الله عليهم من استبانة الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وتطهّرت أرواحهم من دنس الشرك ولوثات المعتقد، واستطاعوا أن يعرفوا ربّهم ويوحّدوه حق التوحيد، ويُدركوا ما يجب في حقّه من التعظيم والعبادة.

وقد كان لهذه الهداية التامّة، والعلم اليقيني، الذي بلغه الصحابة من خلال التربية النبويّة والتنشئة الربّانية، دورٌ مهم في سلامة المعتقد الذي اتّصفوا به، وانسحب ذلك على إيمانهم بعقيدة القضاء والقدر، فكانوا على السلامة والتسليم، ولا يكدر ذلك ما بدرَ من تساؤلاتٍ يسيرة في بعض المواطن بين النبي صلى الله عليه وسلم لهم فيها الموقف من هذه القضية، وأقام فيها منهجاً واضحاً يُحكم هذه العقيدة ويؤصّلها، وسوف نستعرض في الأسطر القادمة كيف بين النبي –صلى الله عليه وسلم- معالم المنهج في التعامل مع القدر، والقضاء على أي بادرة تؤدي إلى الخلل في هذه العقيدة .

فمن ذلك: موقفه من التنازع في هذه القضية الحسّاسة الدقيقة، وفي هذا السياق يأتي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتنازع في القدر، فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمرّ وجهه، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمّان، فقال: (أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه) رواه الترمذي، وقول أبي هريرة :" حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمّان" يعني به شدّة احمرار وجهه من الغضب.

وقد جاء هذا الحديث بنص آخر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حبّ الرمّان من الغضب، فقال: (بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ بهذا هلكت الأمم قبلكم) فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: "ما غبطت نفسي بمجلسٍ تخلّفتُ فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه" رواه ابن ماجة في سننه.

لقد كان غضب النبي –صلى الله عليه وسلم- لأنه خوض في مسألةٍ جليلةٍ كالقضاء والقدر بالظن وعدم العلم، ولأنّه محاولة علم ما لا تهتدي العقول إلى معرفته، وليس هذا هو هو المقصود من خلقهم، ولا هو الذي وقع التكليف به، بل هو مفضٍ إلى التنازع والخصام، وبذلك تظهر حكمة نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته عن التنازع في القدر، مع أنّ المتنازعين كان كلّ منهما يُدلي بآية، لكن كان ذلك يُفضي إلى إيمان كلّ طائفة ببعض الكتاب دون البعض.

ومن المواطن التي وقع فيها البيان، الظنّ بأن العدوى تنتقل بذاتها وأنها مؤثّرة لوحدها، وفي ذلك إغفالٌ لمسألة التقدير الإلهي والمشيئة الإلهيّة لسببيّة العدوى، ولو شاء الله ما وقعت العدوى، فلا بد إذن من التوازن بين الإيمان بأن الله سبحانه هو خالق الأسباب وموجد تأثيرها، وبين إثبات القدر، فالعدوى حاصلة، ولولا أن خلق الله أسبابها وقدّر وجود التأثير فيها ما حدثت ولا أثّرتْ.

نجد تقرير هذه المسألة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة) فقام إليه رجل أعرابي، فقال: يا رسول الله، أرأيت البعير يكون به الجرب، فيجرب الإبل كلها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ذلكم القدر، فمن أجرب الأول؟) رواه أحمد وابن ماجة.

وللتحذير من نفاة القدر يصفهم النبي –صلى الله عليه وسلّم بأوصافٍ تشمئزّ منها النفوس، حتى يحذر الناس مسلكهم، ويتجنّبوا أفكارهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) رواه الحاكم في المستدرك.

ولعل سائلاً يسأل عن وجه تسمية القدرية بمجوس هذه الأمة، والجواب أنهم أنكروا أن الله سبحانه وتعالى خالق كلّ شيء ومقدّره، واستثنوا من ذلك الشرّ فزعموا أن الله تعالى لم يخلق الشرّ ولم يقدّره، وجعلوا الإنسان هو خالق أفعاله، فكما أن المجوس يعتقدون بوجود الخالقيْن، أحدهما للخير والنور، والآخر للظلمة والشرّ، فكذلك القدريّة حينما وصفوا العبد بأنه يخلق أفعال نفسه.

ومن الأحاديث التي جاءت محذّرةً من هذه النحلة العقديّة، حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) رواه أبو داود.

وقد جاء رجلٌ إلى ابن عمر فقال: إن فلانا يقرئك السلام، فقال ابن عمر رضي الله عنه: إنه بلغني أنه قد أَحدَث –أي بدعة في القدر-، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يكون في أمتي أو في هذه الأمة مسخ، وخسف وقذف، وذلك في أهل القدر) رواه ابن ماجة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) رواه الترمذي وابن ماجة.

ولا يفوت أن ننوّه بأن الأحاديث المتعلّقة بالقدريّة لا تخلو من كلام، إلا أنها تعتضد في بيان ذلك المعنى الذي جاءت لأجلها هذه الأحاديث، وهو التحذير من مسلك منكري القدر أو الخائضين فيه بغير علم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة