الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بغداد وتراتبية السقوط المتسارع

بغداد وتراتبية السقوط المتسارع

بغداد وتراتبية السقوط  المتسارع

رغم ما تحتله مدينة بغداد من أهمية تاريخية وجيوسياسية تجعلها هدفا استراتيجيا في كل نزاع مسلح ينشب في المنطقة للسيطرة على أقاليم العراق، وبالرغم مما تحظى به من اهتمام - أمني على الأقل – من قبل كل السلطات التي تعاقبت على حكم العراق في القديم والحديث إلا إنها ورغم كل ذلك ظلت وعلى مدى التاريخ تفاجئ المراقبين بسرعة سقوطها الدراماتيكي الذي يفوق كل التوقعات، وإذا ما قلبنا صفحات تاريخ هذه المدينة ومواجهاتها مع الغزاة والفاتحين فسنكتشف ضعف مناعتها ضد الحروب رغم أنها من أكثر مدن العالم توترا واحتداما للنزاع حولها بين تيارات وطوائف وآيدلوجيات مختلفة، ورغم العدد الضخم الذي تعرضت له من عمليات الغزو والتخريب والتدمير والتشويه وإعادة التأهيل، ولنتوقف قليلا عند بعض المحطات البارزة في التاريخ الحربي لهذه المدينة:

• في سنة 196هـ/812 م نشبت الفتنة بين ولدي الخليفة العباسي هارون الرشيد؛ محمد الأمين والمأمون فخرج المأمون على طاعة الأمين وأرسل جيشا حاصر بغداد مدة خمسة عشر شهرًا، ثم دخل بغداد بالسيف قسرًا، فخرج الأمين بأمه وأهله من القصر إلى مدينة المنصور، وتفرق عامة جنده وغلمانه وقل عليهم القوت والماء، وقتل من أهل المدينة خلق كثير، وأخذت أموال كثيرة منهم، وبعث الأمين إلى قصور كثيرة ودور شهيرة مزخرفة وأماكن ومحال كثيرة فحرقها بالنار لألا يغنمها المأمون، ثم قتل الأمين وخربت دياره حتى كادت بغداد تخرب بكمالها.

• في سنة 656هـ/ 1258م: سقطت بغداد في أيد المغول و دمروها و أبادوا سكانها و قبضوا على الخليفة العباسي المستعصم بالله و رجاله وقتلوهم شر قِتلة، واستباحوا المدينة لمدة أربعين يوما ولم يخرجوا منها إلا بعد أن " ثقل الهواء فيها بما حمل من كريه رائحة الجيف المنتفخة وأشلاء القتلى المطروحة في شوارع المدينة " كما ذكرت كتب التاريخ، وقد أجمل ابن طباطبا ما نزل بأهل بغداد في تلك الأيام فقال: " ... جرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة فما الظن بتفصيله :
وكان ما كان مما لست أذكره فظن ظنا ولا تسأل عن الخبر

• بعد 135 سنة؛ عاد حفيد هولاكو " تيمورلنك " إلى بغداد فدخل المدينة وقتل عشرات الألوف من السكان وعذب الأحياء في شوارع المدينة لانتزاع الأموال منهم .
• بعد عام واحد من احتلال تيمورلنك لبغداد ضرب السلطان أحمد حصارا حول المدينة ودخلها عنوة وارتكبت مجازر في شوارع بغداد راح ضحيتها هذه المرة جنود تيمورلنك.

• بعد سبع عشرة سنة من هذا السقوط سقطت بغداد مرة أخرى بعد أن حاصرتها جيوش " قرة يوسف " مدة نيف وخمسين يوما؛ فأفسدوا سائر المحال ببغداد وانطلقت أيديهم وأيدي العساكر في النهب وقاموا بقتل معظم سكان بغداد من العرب .
• ثم في سنة 914 هـ/1508 م سقطت بغداد على يد إسماعيل الصفوي وأصبحت العراق تابعة للصفويين، وذبح سكان بغداد وعلماء المسلمين ولم يترك إسماعيل بغداد إلا بعد أن عين خادمه خليفة عليها وأطلق عليه لقب " خليفة الخلفاء " للسخرية من المسلمين .

• في عام940 هـ / 1534م حاصر السلطان العثماني سليمان بغداد وتمكن بسهولة من اقتحامها وقتل بقايا وفلول الصفويين فيها وأمر بإعادة بناء الأماكن الإسلامية التي هدمها الصفويون .

• احتلت بريطانيا بعد ذلك بغداد سنة 1335هـ / 1917م، وفرضت على العراق الانتداب الإنجليزي بعد تحويله مملكة للهاشميين وانتهت هذه المرحلة بمجزرة قصر الرحاب التي أبيد فيها معظم أفراد الأسرة المالكة .
• ثم تتابعت الانقلابات العسكرية الدموية التي انتهت بوصول صدام إلى الحكم .

• ثم هوجم العراق في 20 مارس 2003 من قبل قوات الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتنشب حرب تسببت بأكبر خسائر بشرية في المدنيين في تاريخ العراق وتاريخ الجيش الأمريكي في عدة عقود، ورغم تأكيدات الجيش والقيادة العراقية على جاهزيتهم لصد هذا الهجوم، وأن كل من يهاجم بغداد سيموت منتحرا على أسوارها إلا أن العالم تفاجأ بسقوط بغداد وانهيار كامل لمقاومة الجيش العراقي بعد ساعات من هجوم نفذته مدرعة أمريكية على القصر الجمهوري بإسناد من القوة الجوية الأمريكية .

هذه قفزات سريعة في تاريخ مدينة السلام هذه المدينة التي كتب عليها منذ اختطاطها على يد أبي جعفر المنصور سنة 149 هـ مقارعة الحروب ومنازلة الغزاة بمعدل مرة في كل ثلاثين عاما تقريبا، وفي هذه اللحظات التي ندبج فيها هذه الأسطر تتحفز مدينة بغداد على وقع سماع خطى المسلحين وهم يقتربون من حمى المدينة، في وضع عسكري وسياسي بالغ التعقيد، ويحبس العالم الآن أنفاسه ليرى ما إذا كان التاريخ سيعيد نفسه وتسقط بغداد بنفس الطريقة الدراماتيكية التي كانت تسقط بها سابقا أم أنها ستصمد هذه المرة وتقلب معادلات التاريخ بموازنات القوة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

من ذاكرة التاريخ

الإمام محمد بن سيرين

ابن سيرين تابعي كبير وإمام قدير عرف بالزهد والورع، وكان إمام عصره ‏في علوم الدين، فقيهاً ومفسراً ومحدثاً وإماماً...المزيد