الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قوارع القرآن

قوارع القرآن

قوارع القرآن

جاء في كتاب "المجالسة وجوهر العلم" لأحمد بن مروان الدينوري المالكي، أن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان سفيان الثوري يجلس في الليلة ستين مرة وسبعين مرة؛ فسمعته يقول: اللهم! هون علي وعلى من معي، إنه ليس نفس في الدنيا أعز علي من نفسي. يا عبد الرحمن! ذهبت الحياة. ثم قال ل مرحوم العطار : اقرأ عند رأسي {يس} ومن قوارع القرآن. وذكر الزمخشري في كتابه "أساس البلاغة" حديثاً نصه: (شيبتني قوارع القرآن). فما هي قوارع القرآن؟

(القوارع) جمع قارعة، وهي في اللغة: النازلة الشديدة، تنزل بأمر عظيم؛ ولذلك قيل ليوم القيامة: القارعة؛ لأنها تقرع الناس، أي: تضرب بفنون الأفزاع والأهوال، أي: تصيبهم بها، كأنها تقرعهم بها. قال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} (الرعد:31). وفي الحديث: (من لم يغزُ، ولم يجهز غازياً أصابه الله بقارعة)، رواه أبو داود وابن ماجه، أي: بداهية تهلكه. ويقال: قرعه أمر: إذا أتاه فجأة. ويقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي: أهواله وشدائده.

والمستفاد من معاجم اللغة أن المراد بـ (قوارع القرآن) الآيات التي من قرأها أَمِنَ شر الشيطان، كآية الكرسي، ونحوها، كأنها تقرعه وتهلكه. قال صاحب معجم "مقاييس اللغة": "قوارع القرآن: الآيات التي من قرأها لم يصبه فزع. وكأنها -والله أعلم- سميت بذلك؛ لأنها تقرع الجن". وقال الزَّبيدي: "قوارع القرآن: هي الآيات التي من قرأها أمن من الشياطين والإنس والجن، كأنها سميت؛ لأنها تقرع الشياطين؛ ولأنها تصرف الفزع عمن قرأها". وجاء تعريفها قريب من هذا في "معجم علوم القرآن".

وفي كلام أهل العلم ما يفيد أن المراد من (قوارع القرآن) ما جاء في معاجم العربية؛ فابن تيمية عند حديثه عن الأسباب التي تدفع شياطين الأنس والجن يذكر من تلك الأسباب قراءة سور من القرآن، ويسمي هذه السور (قوارع القرآن)، ونص عبارته رحمه الله: "فأهل الإخلاص والإيمان لا سلطان له عليهم. ولهذا يهربون من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ويهربون من قراءة آية الكرسي...وهذه الأحوال الشيطانية تبطل، أو تضعف، إذا ذُكر الله وتوحيده، وقرئت قوارع القرآن؛ لا سيما آية الكرسي؛ فإنها تُبطل عامّة هذه الخوارق الشيطانية". وعند تقريره قاعدة في الوسيلة، يقول: "ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين". ففي هذين النصين لشيخ الإسلام ما يفيد أن المراد من (قوارع القرآن) ما ذكرته معاجم العربية.

وقد ذكر الزركشي هذا النوع من (القوارع) تحت عنوان (معرفة خواصيه)، ونقل جملة من الأخبار في ذلك، وختمها بقوله: "هذا النوع لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيته، وتدبر الكتاب في عقله وسمعه، وعمَّر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره، وتمسك به، وتدبره هنالك تأتيه الحقائق من كل جانب، وإن لم يكن بهذه الصفة كان فعله مكذبا لقوله".

وذكره السيوطي تحت عنوان (خواص القرآن)، ونقل جملة من الأحاديث التي لم تصل إلى حد الوضع ومن الموقوفات عن الصحابة والتابعين، ومما قاله في هذا الصدد: "وما يذكر في ذلك كان مستنده تجارب الصالحين...وأما ما لم يرد به أثر فقد ذكر الناس من ذلك كثيراً جداً الله أعلم بصحته".

والمتحصل من أقوال أهل العلم أن المراد بمصطلح (قوارع القرآن): الآيات القرآنية التي تحفظ من الشياطين، وتعصم منهم، وتكون على هيئة أوراد للمسلم في الصباح والمساء، أو تقرأ في أحوال معينة، كحال الخوف والقلق.

على أن المتتبع لما جاء في هذا الصدد يجد أن ثمة تعريفاً آخر لهذا المصطلح، يفيد أن المراد من (قوارع القرآن) الآيات الزواجر، والآيات التي يخوف الله به عباده؛ ليلزموا طريق الحق والصواب، وينأوا بأنفسهم عن سبيل الغي والضلال؛ يرشد لهذا المراد ما ثبت في "صحيح البخاري" في تفسير سورة الطور من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} (الطور:35) إلى قوله: {المصيطرون} (الطور:37) كاد قلبي أن يطير، إلى غير ذلك من قوارع القرآن وزواجره التي خوفت المنافقين، حتى قال الله تعالى فيهم: {يحسبون كل صيحة عليهم} (المنافقون:4). ففي هذا الحديث ما يفيد أن المراد بـ (قوارع القرآن) الآيات الزواجر التي يخوف الله بها عباده، لينزجروا وليرعووا.

ومما يرشد لهذا المعنى أيضاً ما ذكره ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} (الزمر:23)، قال: "إن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود، وهي المعاني الموسومة بالجزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة، تبعث على امتثال السامعين له، وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره".

ونحو هذا أيضاً ما ذكره ابن عاشور عند تفسيره لقوله عز وجل: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} (الأعراف:28)، قال: "ثم جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة، وأسمعهم (قوارع القرآن) فحينئذ تصدوا للاعتذار"، ففي قول ابن عاشور هذا ما يفيد أن المراد بـ (قوارع القرآن) زواجره وتخويفاته وترهيباته.

وينقل الشيخ القاسمي عند تفسيره لقوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات:17) قول أبي إسحاق الصابي في حق الذين أعرضوا عن دعوة الحق من قريش: "فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن"، فالعبارة الأخير تفيد أن المراد بـ (قوارع القرآن) الزواجر والنواهي.

ويرشد لهذا المعنى غير ما تقدم ما جاء في "تفسير الخازن" عند قوله تعالى: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} (المؤمنون:105)، قال الخازن معلقاً على هذه الآية: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} يعني: قوارع القرآن وزواجره، تخوَّفون بها {فكنتم بها تكذبون}.

وأهل الأدب واللغة قرروا هذا المعنى أيضاً؛ فابن الأثير الأديب في كتابه "المثل السائر" عندما أراد أن يبين جزالة القرآن ورقة ألفاظه، قال: "انظر إلى قوارع القرآن عند ذكر الحساب، والعذاب، والميزان، والصراط، وعند ذكر الموت، ومفارقة الدنيا، وما جرى هذا المجرى، فإنك لا ترى شيئاً من ذلك وحشي الألفاظ، ولا متوعراً"، واستشهد للمعنى الذي قرره بقوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} (ق:16-22)، وقد قال معقباً على هذه الآيات الكريمة: "وهذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة، التي دلت على تخويف، وإرهاب ترق القلوب، وتقشعر منه الجلود، وهي مشتملة -على قِصَرها- على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين حشره، وتصوير ذلك الأمر الفظيع في أسهل لفظ وأقربه".

كما أن بعض أهل العلم المعاصرين أكد هذا المعنى؛ فبعد أن قرر أن بعض المسلمين قد ابتعد كثيراً عن هدي الإسلام وأخلاقه، بل عن كثير من توحيد العبادة وما يليق بجلاله سبحانه وتعالى من المحبة والتعظيم والخضوع والتسليم، قال: "فمثل هؤلاء لا بد لهم من قوارع ومواعظ قوية تنبههم من غفلتهم، وتخرجهم عن غيهم، وليس أقوى من قوارع القرآن الكريم، الذي أثر في العرب تأثيراً بالغاً ليس بنظمه المعجز فقط، بل بزواجره ونواهيه وطريقة عرض قصصه في كل سورة". واستدل لهذا المراد بأن بعض زعماء قريش حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ عليه: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت:41)، طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم التوقف عن التلاوة؛ وذلك خوفاً ورهبة مما تضمنته هذه الآية من الإنذار والوعيد والتهديد.

هذه النقول التي نقلناها عن أهل العلم تشهد للمعنى الثاني من معاني (قوارع القرآن)، وهو معنى لا يُلغي المعنى الأول الذي قررته معاجم العربية، ولا يعارضه، بل كلا المعنيين متساندان، ومتكاملان، ومتآزران.

أمثلة من قوارع القرآن

ألمعنا بداية إلى أن (قوارع القرآن) بالمعنى الأول المراد منها: آية الكرسي، وهي أفضل آية في القرآن، وأواخر سورة البقرة، والمعوذات، والسور التي ثبت في فضلها خبر صحيح. وفيما يلي نذكر بعض الآيات التي جاءت بالمعنى الثاني من معاني (قوارع القرآن)، فمن ذلك:

- قوله عز وجل: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة:24).

- قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} (المائدة:51).

- قوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد:38).

- قوله عز وجل: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} (المائدة:72).

- قوله جلَّ وعلا: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا} (النساء:29-30).
- قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} (آل عمران:149).

- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} (آل عمران:100).

- قوله عز وجل: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159).

- قوله جلَّ وعلا: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (البقرة:174).

- قوله سبحانه: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين} (المجادلة:5).

- قوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (آل عمران:77).

والآيات التي تحمل معنى التقريع والتهديد والوعيد والإنذار والترهيب كثيرة في القرآن، الغرض منها كما تقدم زجر النفس البشرية عن سلوك سبل الغي والضلال، والأخذ بيدها إلى سلوك طريق الخير والرشاد.

يبقى أن نشير في ختام المطاف إلى أن بعض أهل العلم أفرد كتاباً خاصاً، جعل موضوعه قوارع القرآن، ومن الذين فعلوا ذلك: أحمد بن سهل، أبو زيد البلخي، فقد أفرد كتاباً جعله تحت عنوان (قوارع القرآن)، ذكر ذلك ابن النديم في "الفهرس"، وهو كتاب مفقود. وفعل الشيء نفسه عبد الجبار بن عبد الخالق العكبري، كتب كتاباً سماه (رياض الجنان في قوارع القرآن)، ذكر ذلك حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون". ومن ذلك أيضاً كتاب (قوارع القرآن وما يُستحب أن لا يخل بقراءته كل يوم وليلة)، لمؤلفه أبي عمرو بن يحيى الجُوْري النيسابوري، وهذا الكتاب مطبوع بتحقيق الأستاذ أحمد بن فارس السلوم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة