الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أضيع عمل عامل منكم

لا أضيع عمل عامل منكم

لا أضيع عمل عامل منكم

في أواخر سورة آل عمران، وفي سياق الحديث عن الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، طالبين من ربهم المغفرة، وتكفير السيئات، والدخول الجنة مع الأبرار جاء قوله سبحانه: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب} (آل عمران:195). نقف مع سبب نزول هذه الآية.

روى الترمذي في "جامعه" عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة)، فأنزل الله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض}. قال الشيخ الألباني: حسن لغيره. وأخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

وفي رواية أخرى أخرجها ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: لا نستشهد، ولا نقاتل، ولا نقطع الميراث، فنزلت: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض }.
أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسير هذه الآية، كالطبري، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي. قال الطبري: "وذُكر أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال الرجال يُذكرون، ولا تُذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله هذه الآية"، ثم ذكر حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

وقال ابن عطية: "وروي أن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: (يا رسول الله! قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة، ولم يذكر النساء في شيء من ذلك)، فنزلت الآية".

وصنيع الطبري وابن عطية يومئ أن حديث أم سلمة ليس سبباً لنزول الآية، إما لضعف سنده، وإما لمخالفته لسياق الآية؛ ولهذا فإن كلام الطبري يفيد أن الآية جاءت جواباً لأولئك الداعين، قال: "يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم، أنهم دعوا به ربهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم، عمل خيراً، ذكراً كان العامل أو أنثى". وقال ابن كثير بعد سياق الآية: "ومعنى الآية: أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره، فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة:186). وقوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} هذا تفسير للإجابة، أي: قال لهم مخبراً أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى.
ومن ثم، فالراجح أن الآية لم تنزل بسبب قول أم سلمة رضي الله عنها؛ وذلك لوجهين:

الأول: أن إسناد الحديث فيه رجل مبهم.

الثاني: أن السياق القرآني لا يؤيد هذا ولا يسعفه، وإنما يؤيد أن الآية جاءت جواباً من الله لهؤلاء الذين يدعونه رهباً ورغباً بقولهم: {فقنا عذاب النار } (آل عمران:191) إلى قولهم: {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} (آل عمران:193-194)، ثم قال سبحانه: {فاستجاب لهم ربهم}، ولو كانت الآية نزلت بسبب قول أم سلمة رضي الله عنها لانقطع الاتصال بين الدعاء والجواب، وهذا غير خاف على من تأمله.

وحاصل القول: إن الآية لم تنزل بسبب قول أم سلمة رضي الله عنها، وإنما جاءت جواباً من الله سبحانه لهؤلاء الخاشعين الذين يدعون ربهم رغبة في جزائه وعطائه ورهبة من عقابه وعذابه، فأجابهم المنعم المتفضل إلى ما طلبوا، ونجاهم مما هربوا، والله ذو فضل على المؤمنين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة