الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حتى تأتيهم البينة

حتى تأتيهم البينة

حتى تأتيهم البينة

أخبر سبحانه عن أهل الكتاب والمشركين في مواضع عديدة من القرآن الكريم، من ذلك ما جاء في فاتحة سورة البينة، وهو قوله سبحانه: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} (البينة:1)، ثم جاء بعدُ في السورة نفسها قول الباري سبحانه: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (البينة:4)، وقد ذكر عدد من المفسرين هنا إشكالاً، قال عنه الرازي: إنه "غلط به بعض أكابر أهل العلم، وهو جدير بالتأمل".

وحاصل الإشكال أنه سبحانه ذكر في أول السورة أن أهل الكتاب والمشركين لن ينفكوا عن كفرهم وشركهم إلى وقت معلوم، وهو أن تأتيهم البينة، أي: الحجة التي تحملهم على الإيمان، ثم في الآية بعدُ قال: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}، وهذه الآية تفيد أن تفرق أهل الكتاب واختلافهم إنما كان بعد مجيء الحجة إليهم، فهل البينة سبب في أن ينفكوا عن شركهم وكفرهم، ويكونوا مؤمنين؟ أم هي سبب في أن يتفرقوا ويختلفوا، كما هو ظاهر الآية؟

وقد ذكر المفسرون عدة وجوه في حل هذا الإشكال، ترجع إلى خمسة أقوال:

أولها: أن قوله سبحانه: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} حكاية عما يدَّعونه من أنه لو جاءهم رسول بالبينة لآمنوا، فكأن الله تعالى حكى هذا عنهم.

ثانيها: أن كلمة {منفكين} لا تعني أنهم ينفكون عن الضلال، ويتركون الشرك، وإنما المقصود أنهم لم يكونوا {منفكين} عن انتظار النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه، وذكر فضائله إلى أن بُعث إليهم؛ فاليهود كانوا يذكرون في كتبهم أن نبيًّا أطل وقته، وأقبل زمانه سيبعث، وأنهم سيتبعونه، ويقتلون العرب به قتل عاد وإرم، {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة:89) وكذا المشركون كانوا في الجاهلية يسمونه: الأمين، فلما بُعث كفروا به وكذبوه وخوَّنوه، فانفكوا عن مدحه بعد ما جاءتهم البينة ببعثته إليهم.

ثالثها: أنهم ليسوا {منفكين} حتى ولو جاءتهم البينة، فإنهم سيظلون على ما هم عليه، وعلى هذا يكون معنى الآية: أن القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، كقوله سبحانه: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} (التوبة:124-125).

رابعها: أنهم ليسوا بميتين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة قبل موتهم، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (فاطر:24)، أو أنهم ليسوا متروكين سدى من غير أمر ولا نهي، كما قال سبحانه: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} (القيامة:36).

خامسها: أن المعنى حتى يأتيهم مَلَك من السماء، ويكون هذا نوعاً من السخرية منهم، أنهم لم يؤمنوا حتى يروا مَلَكاً معه كتاب، كما كان المشركون يقولون: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} (الإسراء:90-91).

هذا حاصل ما ذكره المفسرون في رفع الإشكال بين الآيتين. والذي مال إليه الشيخ سلمان العودة أن الآية لا تحتاج إلى تأويل، وليس فيها إشكال، وأن معناها واضح.

وبيان ذلك: أن الله سبحانه قال: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} أي: ليسوا تاركين شركهم وكفرهم، حتى تقوم عليهم الحجة، وحتى يُبعث فيهم الرسول، وتنزل إليهم الكتب؛ وذلك لأنه لا يستطيع أحد أن يهتدي بغير صراط الله وطريقه.

فالآية تنفي أن يكونوا منفكين عن الضلال إلى الهدى إلا ببينة، ولم تقل: إن أهل الكتاب والمشركين إذا جاءتهم البينة سوف ينفكون جميعاً عن الضلال، ويهتدون حتماً، ولكن سيكون منهم من يهتدي، ومنهم من لا يهتدي.

وهذا معنى سهل واضح، ومعه لا يبقى بين الآيتين إشكال؛ لأن الآية الأولى تقرر أن أهل الكتاب والمشركين لا يمكن أن يهتدوا من ضلالهم إلا ببينة من عند الله سبحانه؛ ولذلك بعث الله إليهم الرسول، وأنزل إليهم الكتاب ليبين لهم الذي يختلفون فيه. وأما هل نفعتهم البينة وآمنوا بها، أو أنهم استكبروا وأصروا على كفرهم؟ فهذا أمر آخر لم تتعرض له الآية الكريمة.

وهذا الذي ذكره الشيخ سلمان وإن لم ينص عليه المفسرون، إلا أنه يبدو مقصود كثير منهم، وكثير ممن يقرأ القرآن الكريم يتبادر إلى ذهنه هذا المعنى، ولا يجد بين الآيتين إشكالاً.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة