الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاعتبار بالمتابعات والشواهد وأثره في تقوية الحديث

الاعتبار بالمتابعات والشواهد وأثره في تقوية الحديث

الاعتبار بالمتابعات والشواهد وأثره في تقوية الحديث

الاعتبار هو عملية تتبع طرق الحديث في الكتب الحديثية المسندة، ليُعلم هل لهذا الحديث طرق وشواهد ومتابعات أم لا، وعرفها بعضهم: بأنه الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعات أو الشواهد، وذلك بأن يأتي المحدث إلى حديث لبعض الرواة، فيسبر طرقه ويتتبعها من جميع كتب الحديث؛ الصحاح والسنن والجوامع والمسانيد والمعاجم والمشيخات والفوائد والأجزاء وغيرها، ليعرف هل شارك هذا الراوي في رواية هذا الحديث راو غيره أم لا!؟ فإن وُجد من يشارك الراوي الذي كان يُظن بانفراده ممن يُعتبر به في الرواية عن شيخه، أو لمن فوقه إلى آخر السَّند فهذا يسمى تابع، فإن كانت هذه المتابعة للراوي نفسه فهي المتابعة التامة، وإن كانت لشيخه أو من فوقه فهي المتابعة القاصرة.

وتكمن أهمية الاعتبار بالمتابعات والشواهد في أنه يوقفنا على الطرق التي تصلح لتقوية الأحاديث الضعيفة، والتي لا تصلح، ولهذا يقولون: هذا صالح للاعتبار، وهذا غير صالح، وبالاعتبار يُعلم نوع هذا الحديث؛ هل هو من قبيل المتواتر، أو الآحاد، وهل له طريق واحد فيسمى غريب، أو له أكثر من طريق، فيكون من قبيل العزيز، أو المشهور، ويساعد أيضاً في التعرف على علة، وهو ما عبر عنه الإمام ابن المديني بقوله: البابُ إذا لم تجمع طُرقُه، لم يتبينْ خطؤه".

يرى بعض العلماء أن الاعتبار والمتابعة شيء واحد، ويسمون عملية المتابعة اعتباراً، ويرى بعضهم أن الاعتبار هو الطريق التي نتوصل من خلالها إلى المتابع؛ وهذا هو الرأي الأرجح، ولهذا فسروا الاعتبار بأنه التفتيش عن وجود المتابع، فالحديث تتعدد طرقه إما بالمتابعات، وإما بالشواهد، سواء كان ذلك بلفظ الحديث أو بمعناه.

أما المتابعات فهي جمع متابعة، وهي طريق أخرى للحديث عن نفس الصحابي، كأن يروي الحديث عن ابن عمر نافع، ثم نجد لهذا الحديث رواية أخرى من طريق ابنه سالم، فيقال: تابعه سالم بن عبد الله، أي تابع نافع في رواية هذا الحديث، وتكمن أهمية معرفة المتابعة في أنها ترفع الغرابة عن الحديث، بوجود من يوافق نافع في روايته، وتؤدي بالتالي إلى تقوية الحديث من ذلك الطريق، بحسب قوة الراوي الذي تابعه، فترفعه من درجة الضعيف إلى درجة الحسن لغيره، أو من الحسن إلى الصحيح لغيره، قال الحافظ ابن كثير: "ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوج الحسن أو الصحة".

فالحديث الحسن لغيره هو الحديث الذي في إسناده راوٍ ضعيف، في طبقة من طبقاته، وجاء راوٍ آخر مثله ضعيف فاعتضد به وتقوى به فيرتقي الحديث إلى الحسن لغيره. ويشترط الحافظ ابن الصلاح للحديث الحسن لغيره ثلاثة شروط؛ الأول: ألا يظهر قدح في عدالة راويه، والثاني: ألا يكون الراوي للحديث الحسن كثير الغلط، والثالث: أن تتعدد طرق الحديث من مجيء الشاهد أو المتابع له.

وهناك شروط أخرى يشترطها العلماء في المتابعات، منها: أن تكون الرواية المتابعة مثل الرواية الأولى في القوة أو أقوى منها، ولا يصح أن يعتضد بمن هو أدنى منه، ومنها: ألا يكون الضعف شديداً، كأن يكون الراوي كذاب، أو وضّاع، أو متهماً بالكذب، والفارق بين الكذاب والمتهم بالكذب يسير.

قال الحافظ ابن حجر في النخبة: والفرد النسبي إن وافقه فهو المتابع، وقال في نزهة النظر: إن وُجد بعد ظن كونه فرداً قد وافقه غيره فهو المتابِع بكسر الموحدة، والمتابعة على مراتب: لأنها إن حصلت للراوي نفسه فهي التامة. وإن حصلت لشيخه فمن فوقه فهي القاصرة، ويستفاد منها التقوية. وقال اللقاني: قوله "النسبي" إنما قيد به لأن الفرد المطلق لا يتأتى فيه المتابعة؛ لأن الذي ينفرد بروايته واحد عن الصحابي فما وُجِدَ له متابع لم يكن فرداً مطلقاً.

أما الشواهد فهي جمع شاهد، وهو نوع من أنواع المتابعة، لكنه يختص بمتابعة الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لصحابي آخر في متن حديث لفظاً أو معنى، كحديث يرويه الصحابي جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجد مثله أو نحوه أو معناه عن أم المؤمنين عائشة أو غيرها، فهنا يقال عن حديث جابر: له شاهد من حديث عائشة أو غيره، وهو ما يعبر عنه الإمام الترمذي عادة بقوله: "وفي الباب عن ..".

قال الحافظ ابن حجر في النخبة: "وإن وجد متن يشبهه فهو الشاهد"، وقال في النزهة: "وإن وجد متن يُروى عن حديث صحابي آخر يشبهه في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط فهو الشاهد"، ومعناه أن يرد عندنا حديث لابن عمر، ويأتي حديث آخر لابن عباس معناهما واحد، فنقوي هذا بهذا، يكون سند هذا ضعيفا، وسند هذا ضعيف فنقوي هذا بهذا، ويشترط في هذه الحالة أن يكون الحديث الشاهد بنفس مستوى الحديث الأول في القوة، فلا يشهد الحديث الضعيف لحديث قوي، والعكس صحيح، ولا يجوز تكلف تقوية الحديث بشاهد صلته به لا تدرك إلا بتكلف. لأن رواية شديد الضعف وجودها مثل عدمها، لا يستفيد منها الحديث قوة، فوجودها مثل عدمها إذا كان الراوي شديد الضعف، ولذا قال -يعني العراقي في ألفية الحديث- : "فإن يكن شورك من مُعتبر به" كثيراً ما يقال: فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به، فإذا كان ممن يعتبر به؛ فضعفه ليس بشديد، وهو الذي يقبل الانجبار.

ويوضّح الإمام النووي في كتابه تدريب الراوي صورة المتابع والشاهد بمثال فيقول: فمثال الاعتبار أن يروي حمادٌ مثلاً حديثاً لا يتابَع عليه، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر هل رواه ثقة غير أيوب، عن ابن سيرين فإن لم يوجد فغير ابن سيرين، عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأي ذلك وجد عُلم أن له أصلاً يرجع إليه وإلا فلا. ويضيف: والمتابعة أن يرويه عن أيوب غير حماد وهي المتابعة التامة، أو عن ابن سيرين غير أيوب، أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابيٌّ آخر، فكل هذا يسمى متابعة، وتقصر عن الأولى بحسب بعدها منها وتسمى المتابعة شاهداً، والشاهدُ: أن يروى حديث آخر بمعناه ولا يسمى هذا متابعة اهـ كلام النووي.

فإن لم يوجد للحديث بعد التتبع أي رواية متابعة أو شاهد فهو الفرد؛ وذلك لانفراه عن التابع والشاهد، ومثاله الحديث الذي رواه الترمذي من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أراه رفعه: (أحبب حبيبك هَوْناً مَا) وقال عقِبه: غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه، أي من وجه يثبت. وإلا فقد رواه الحسن بن دينار عن ابن سيرين والحسن متروك لا يصلح للمتابعات.

وقد توسع العلماء في التفريق بين المتابعات والشواهد، فمن العلماء من يخص المتابع بكون المتن بلفظه يُروى من طريق آخر، ولو اختلف الصحابي، ومنهم من يطلق المتابع على اتحاد اللفظ، ولو اختلف الصحابي، والشاهد على اختلاف اللفظ، بمعنى أن يروى الحديث بمعناه، ولو اتحد الصحابي، وهناك قول آخر أن المتابع ما كان عن نفس الصحابي، وأن الشاهد هو ما كان عن صحابي آخر، ولو اتحد اللفظ.

فبعض العلماء ينظرون إلى اللفظ والمعنى، فإن اتحد اللفظ؛ فهو المتابع، حتى لو اختلف الصحابي، وإن اختلف اللفظ واتحد المعنى؛ فهو الشاهد، حتى لو كان نفس الصحابي، ومن العلماء من ينظر إلى الصحابي، وهو الرأي الراجح، فإن كانت الرواية الأخرى عن نفس الصحابي؛ فهو المتابع، وإذا كانت عن صحابي آخر؛ فهو الشاهد، ولو اتحد المعنى، وهذا الذي عليه عمل المخرجين للأحاديث من المتأخرين.

فالاعتبار: هو هيئة التوصل إلى وجود المتابعات والشواهد والبحث، فإذا كان هذا هو الاعتبار فما المتابع والشاهد؟ الذي مشى عليه ابن الصلاح وتبعه الحافظ ابن كثير، ومن اختصر كلام ابن الصلاح ونقله ابن حجر عن قومٍ كالبيهقي ونحوه أن الشاهد ما جاء بمعناه، والمتابع ما جاء بلفظه، يعني نبحث عن الحديث فإذا وقفنا عن حديثٍ آخر بغض النظر عن الصحابي هل اتحد أو اختلف؟ فإن كان باللفظ فالمتابع، وإن كان بالمعنى فالشاهد، هذا ما مشى عليه المؤلف تبعاً لابن الصلاح، وهو محكيٌ عن البيهقي وغيره.

وهناك لفتة مهمة وهي: كيفية معرفة المتابِع من المتابَع، العبرة أن نعتبر الإسناد الذي نبحث فيه هو الأصل، إذا وقفت على إسناد آخر يقوي الإسناد الذي بين يديك فهو المتابِع، أو الشاهد، وهكذا. هذا والله تعالى أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة