الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وَفْد تُجِيب دروس وعِبَر

وَفْد تُجِيب دروس وعِبَر

وَفْد تُجِيب  دروس وعِبَر

السيرة النبوية مَعين عذب لكل من قرأها وحرص على الاستفادة من دروسها وعِبَرها، وذلك لما حوته من أحداث ومواقف في حياة نبينا صلى الله عليه وسلم. ومن هذه المواقف والأحداث الهامة في السيرة النبوية مواقفه صلى الله عليه وسلم مع الوفود التي قدِمت عليه، لا سيما بعد فتح مكة. ومن الوفود التي سُرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم وفادتهم، وكان لهم معه حوار فيه الكثير من الفوائد والآداب: وفد تُجيب، وهم الذين قدموا عليه من اليمن في السنة التاسعة من الهجرة النبوية. وقد قال أبو بكر رضي الله عنه عن هذا الوفد: "يا رسول الله ما وفَدَ من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي مِن تُجيب".

قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وفادات أهل اليمن: وفد تجيب، ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثة عشر رجلا، فأجازهم أكثر مما أجاز غيرهم، وأن غلاماً منهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حاجتك؟ فقال: يا رسول الله ادع الله يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه، فكان بعد ذلك من أزهد الناس".

وقصة وفد تُجيب وما دار فيها من حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم، ذكرها ابن سيد الناس في عيون الأثر، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وذكرها ابن القيم في "زاد المعاد" فقال: "فصل في قدوم وفد تجيب": وقدِم عليه صلى الله عليه وسلم وفد تجيب وهم من السكون (بطن من كندة من اليمن) ثلاثة عشر رجلا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله: سُقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردُّوها فاقسموها على فقرائكم، قالوا: يا رسول الله، ما قدِمْنا عليك إلا بما فضُل (زاد) عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي مِن تجيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان .. وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم رغبة، وأمر بلالاً أن يُحْسِن ضيافتهم، فأقاموا أياماً ولم يطيلوا اللبث (الإقامة)، فقيل لهم: ما يعجبكم؟ فقالوا: نرجع إلى مَن وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إياه، وما ردَّ علينا، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه، فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. قال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: نعم، غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا (أصغرنا) سِنَّاً، قال: أرسلوه إلينا، فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني امرؤ من بني أبذى، يقول: من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله. قال: وما حاجتك؟ قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدِموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أعملني (جاء بي) من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأقبل إلى الغلام -: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم بمنى سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أبذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا، فقال رجل منهم: أوَ ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك. قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكَّرَهم اللهَ والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكره، ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا".

فوائد وعِبَر :

في حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد تجيب والغلام، الكثير من الفوائد والعبر، ومنها :

- عالمية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قدمت الوفود إليه من مختلف البلاد .
- هدي النبي صلى الله عليه وسلم في استقبال الوفود، وسروه بهم، وأهمية إكرام الضيف والتواضع له، (فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم).
- الزكاة توزع على فقراء البلد، وما فضُل عن حاجتهم يجوز نقله لبلد فيه من يستحق الزكاة، وأن الزكاة حق لله تعالى، وفرح المسلم إذا رأى غيره يفعل ما فيه طاعة لله تعالى، "فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله: سُقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوها فاقسموها على فقرائكم، قالوا: يا رسول الله، ما قدِمْنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا".
- أهمية التفقه في الدين، مع العناية بالأسئلة المتعلقة بالكتاب والسنة وفقههما: "وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن".
- الجزاء على قدْر العمل، فالنبي صلى الله عليه وسلم زاد في إكرامهم لما رأى من حرصهم واستجابتهم للخير، "فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم رغبة، وأمر بلالاً أن يُحْسِن ضيافتهم".
- من قضى حاجته فعليه المبادرة بالرجوع لأهله، "فأقاموا أياماً ولم يطيلوا اللبث (الإقامة)".
- الحرص على تبليغ العلم للآخرين، ونقل الأخبار السارة لمن يسعد بها، "فقالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إياه، وما ردَّ علينا".
- عدم احتقار الغلمان، لما يُرْجى من عظيم نفعهم مستقبلاً، فهذا الغلام الذي قدِم مع وفد تجيب أصبح داعياً لقومه للثبات على الإسلام، وعدم الردةعنه.
- طلب الدعاء من أهل الفضل والصلاح والتقى، وعلو همة ذلك الغلام حيث ترفع عن الدنيا، وكان همه طلب الآخرة، قال الغلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "وإني والله ما أعملني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي".
- إقبال النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه على ضيفه، وعدم إعراضه عنه ولو كان صغيراً، واستجابته صلى الله عليه وسلم لطلب ذلك الغلام بالدعاء له، واهتمامه به والسؤال عنه، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأقبل إلى الغلام -: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه".
- لا يحتقر المرء نفسه ـ ولو كان صغيراً ـ في القيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعظم أثر الفرد الصالح وإن لم يكن معروفا ومشهورا في قومه، حيث لم يرتد أحد من قوم هذا الغلام بفضل الله ثم بتذكيره ودعوته لهم.
- عناية ولي الأمر بالصالحين والعلماء من رعيته وتفقد أحوالهم، "فقالوا: نحن بنو أبذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟".

وفي هذا الحديث والحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد تجيب: عَلَم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث استجاب الله دعاءه لذلك الغلام، حين دعا له قائلاً: "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه"، فأصبح هذا الغلام من أزهد الناس، وثبت في فتنة الرِدَّة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووعظ قومه فثبتوا على الإسلام .

لقد تركت لنا الوفود التي قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم من خارج مكة، منهجاً نبويَّاً كريماً في تعامله صلوات الله وسلامه عليه معهم، واهتمامه بهم، وحرصه على تعليمهم أمور دينهم، وحكمته في تعامله ودعوته لهم، ومن ضمن هذه الوفود المليئة بالفوائد والعبر: وفد تُجيب الذي قدِم عليه من اليمن في السنة التاسعة من الهجرة النبوية .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة