الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تكثير الطعام القليل في غزوة الأحزاب

تكثير الطعام القليل في غزوة الأحزاب

تكثير الطعام القليل في غزوة الأحزاب

في السنة الخامسة للهجرة النبوية كانت غزوة الأحزاب (الخندق)، التي بدأت أحداثها ومقدماتها حين خرج وفد من زعماء اليهود نحو كفار مكة، ليحرضوهم على غزو المدينة المنورة، والقضاء على الإسلام والمسلمين، فتعاهدوا معهم على ذلك، واتجهوا نحو المدينة بجموع وجيش كبير يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان، وكان المسلمون حينئذ في حال شديدة من جوع شديد، وبرد قارص، وعدد قليل، وأعداء كُثر، ولقد وصف الله عز وجل هذا الموقف بقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}(الأحزاب 11:10). وحينما اشتد الكرب علي المسلمين، دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم علي الأحزاب فاستجاب الله عز وجل دعاءه، فهبت ريح شديدة، وأقبلت بشائر الفرج والنصر، ورجعت قريش والأحزاب خائبين منهزمين، وانفك الحصار، وعاد الأمن، وثبت المؤمنون، وانتصر الإيمان.

وفي غزوة الأحزاب الكثير من المواقف والأحداث التي ينبغي أن نقف معها للاستفادة منها، ومن ذلك موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه جابر بن عبد الله رضي الله عنه للطعام سراً، وذلك لقلة الطعام الذي يملكه جابر، والذي لا يمكن بحال من الأحوال أن يكفي الجيش المسلم كله، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الخندق جميعا، ودعاهم إلى مشاركته في هذا الطعام.. ولكن ما هو هذا الطعام الذي دُعِي إليه، وهل يمكن أن يكفي الجيش كله؟! إنه شاة صغيرة وصاع من شعير، فهل يمكن أن يغني ويشبع هذا الطعام القليل الجيش كله؟!..
يحدثنا جابر رضي الله عنه عن هذا الموقف ويصف ما حدث فيه فيقول: (لما حُفِر الخندق رأيتُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْصا (جوعا) شديدا، فانكفأت (رجعت) إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت إلي جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن (شاة في البيت) فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغت إلى فراغي وقطعتها في بُرْمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه. فجئته فساررته (كلمته سراً بصوت منخفض)، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنَّا صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع لكم سؤراً (بقية طعام) فَحَيْهلا بكم (هلموا مسرعين)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُنْزِلَنَّ بُرْمَتكُم (قِدْركم)، ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك (أي عَتبت عليه)، فقلت: قد فعلتُ الذي قلتِ لي.. فأخرجت له عجينتنا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي (اغرفي) من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألف .. فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا (شبعوا وانصرفوا)، وإن برمتنا لتغط (تغلي وتفور من الامتلاء) كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو) رواه البخاري.

لقد رأى الصحابة رضوان الله عليهم بركة النبي صلى الله عليه وسلم بأعينهم في مواقف ومواطن كثيرة، ومنها هذا الموقف في غزوة الأحزاب من تكثير الطعام القليل ـ شاة صغيرة وصاع من شعير ـ حتى شبع منه الجيش كله وبقي منه لأهل البيت.
قال القاضي عياض: "وفيه مواساته صلى الله عليه وسلم فيما خُصَّ به، ولما لم يكن قسم ذلك بينهم على حاله دعاهم إليه جميعاً، وجمعهم عليه زمرة بعد أخرى ببركته وآياته. وما ذكر فيه من أن النبى صلى الله عليه وسلم بصق فى العجين والبرمة وبارك، هذا كما فعل فى الماء - أيضاً - رجاء بركته كما كانت، وليس فيه ما يعترض به، إذ كان بصاق النبى صلى الله عليه وسلم غير متقذر عند المسلمين، بل كانوا يرغبون في ذلك، ويحكون بها وبنخامته وجوههم.. وفيه قبول مواساة الصديق وأكل طعامه.. وفيه آيتان بينتان من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام: إحداهما: فِعلية فى تكثير القليل من الطعام وبركة بصاقه وإجابة دعوته. والثانية: قولية بدعوة النبى العدد الكثير لما قد علم قلته، وأنه على ذلك بارك فيه ويكفيهم بوحى الله، ويقين منه بذلك، ومثله فى حديث أبى طلحة، وقوله: "فإن الله سيجعل فيه بركة".. وفيه أنه لا يجب لإنسان أن يدعو لطعامه أكثر من قدره فيفضح نفسه، ويخجل الحاضرين، إلا عند الضرائر والشدائد والمواساة".
وقال النووي: "قد تظاهرت الأحاديث بمثل هذا من تكثير طعام القليل، ونبع الماء وتكثيره، وتسبيح الطعام، وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف حتى صار مجموعها بمنزلة التواتر، وحصل العلم القطعي به، وقد جمع العلماء أعلاماً من دلائل النبوة في كتبهم". وقد أورد ابن تيمية هذا الموقف النبوي في تكثير القليل من طعام جابر رضي الله عنه حتى شبع منه ألف وبقي الكثير ضمن المعجزات النبوية.

مع نصر الله عز وجل وتأييده للمؤمنين في غزوة الأحزاب (الخندق)، فإنه سبحانه أكرم رسوله صلى الله عليه وسلم بمعجزات عظيمة ومتنوعة في نفس الغزوة، منها ما يدخل في إخباره عن علم غيبي مستقبلي، تحقق بعضها في زمانه، والآخر تحقق بعد وفاته، ومنها ما كان استجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم بعد دعائه مباشرة، ومنها ما كان تكثيراً للقليل من الطعام حتى شبع ألف رجل من شاة صغيرة وصاع شعير، والذي تكرر موقف مثله في غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة النبوية، ولذلك قال القاضي عياض: "وقد جمعنا مشهور أحاديث هذا الباب ومن رواه من الصحابة وحمله عنهم من التابعين فى باب معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم". وهذا قليل من كثير من دلائل وأعلام ومعجزات نبوته صلى الله عليه وسلم التي وقعت وتكررت في أماكن مختلفة وأحداث متعددة من سيرته المشرفة صلوات الله وسلامه عليه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة