الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أول مَن جَهَرَ بالقرآن في مكة

أول مَن جَهَرَ بالقرآن في مكة

أول مَن جَهَرَ بالقرآن في مكة

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد السابقين الأولين، وسادس ستة في الإسلام، قال رضي الله عنه: (لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا) رواه ابن حبان وصححه الألباني. هاجر رضي الله عنه الهجرتين، وشهِد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وحفظ من فيه سبعين سورة، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد (عبد الله بن مسعود)) رواه أحمد وحسنه الألباني. قال ابن الأثير عنه: "هاجر الهجرتين جميعاً إلى الحبشة وإلى المدينة، وصلى القبلتين، وشهد بدراً وأُحُداً والخندق وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أجهز على أبي جهل (أكمل قتله)، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة". وهو أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة، قال ابن حجر: "أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود".

لم يكن المسلمون في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يجهرون بقراءة القرآن الكريم خوفاً من الأذى، إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان تبليغ رسالة ربه يفرض عليه أن يجهر بالقرآن وبدعوته، وكان المشركون يتناهون فيما بينهم أن يسمع أحَدٌ منهم القرآن، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}(فصِّلت:26)، قال ابن كثير: "أي: تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن، ولا ينقادوا لأوامره، {وَالغَوْا فِيهِ} أي: إذا تلي لا تسمعوا له. كما قال مجاهد: {والغوا فيه} يعني: بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن". وقال السعدي: "يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن، وتواصيهم بذلك، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} أي: أعرضوا عنه بأسماعكم، وإياكم أن تلتفتوا، أو تصغوا إليه ولا إلى من جاء به، فإن اتفق أنكم سمعتموه، أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه، فـ {الْغَوْا فِيهِ} أي: تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه، بل فيه المضرة، ولا تمكنوا ـ مع قدرتكم ـ أحداً يملك عليكم الكلام به، وتلاوة ألفاظه ومعانيه، هذا لسان حالهم، ولسان مقالهم، في الإعراض عن هذا القرآن".

ورغم شدة الإيذاء والتعذيب الذي تعرض له الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ظلوا صابرين ثابتين على عقيدتهم ودينهم، لكنهم لم يكونوا يجرؤون على الجهر بقراءة القرآن أمام قريش، وكان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، وابن الأثير في "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، والطبري في تاريخه: "عن يَحْيَى بْنُ عُرْوة بنْ الزُّبَيْر، عَنْ أبيه قال: كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعتْ قريشٌ من هذا القرآن يُجْهَر لها به قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إِنا نخشاهم عليك، إِنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إِن أرادوه، قال: دعوني فإِن الله سيمنَعُني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم رافعاً بها صوته: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ}(الرحمن 2:1)، قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأمّلوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابْن أُمِّ عَبْدٍ؟ قال: ثم قالوا: إِنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إِليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إِلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أَهْوَن منهم الآن، ولئن شئتم لَأُغَادِيَنَّهُمْ بمثلها غداً (أي آتيهم غدوة بمثل ذلك)، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون".

لقد سجلت السيرة النبوية أن أوّلَ من جهر بالقرآن الكريم في مكة هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وذلك على الرغم من شدة إيذاء المشركين للمسلمين المستضعفين حينئذٍ، ومن كونه لا عشيرة له تحميه وتدافع عنه، وأنه كان نحيفاً قصيراً صغير الساقين، لكنه رضي الله عنه أصرَّ على أن يكون أول من يجهر بالقرآن أمام قريش، فنال الفضل والشرف في ذلك. وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان شديد القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وكان رضي الله عنه معروفاً بصِغَر ساقيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صغر ساقيه: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد (جبل أحد)) رواه أحمد وحسنه الألباني. وقد ذُكِرَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عِند عبد الله بن عمرو رضي الله عنه فقال: ذاك رجلٌ لا أزالُ أُحِبُّه، سَمِعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم يقول: (خُذوا القرآنَ من أربعة: من عبد الله بن مسعودٍ - فبدَأ به - وسالم مولى أبي حُذَيفة، ومُعاذ بن جبل، وأُبَيِّ بن كعب) رواه البخاري. وقال حذيفة رضي الله عنه: "أشبه الناس دلّاً (حُسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما)، وسَمْتاً (حسن المنظر في أمر الدين)، وهدْياً (في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل) برسول الله صلى الله عليه وسلم لَاَبْنِ أمّ عبد"، قال ابن حجر: "(لَاَبْنِ أم عبد): بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد .. وفي الحديث فضيلة لابن مسعود جليلة، لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة