الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لَلّهُ أرحَمُ بعباده من هذه بولدها

لَلّهُ أرحَمُ بعباده من هذه بولدها

لَلّهُ أرحَمُ بعباده من هذه بولدها

المتأمل في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، يرى كثرة الوسائل والأساليب التربوية التي انتهجها نبينا صلى الله عليه وسلم في تعليمه للأمة وإصلاحه لها، وذلك من خلال تعليمه وتربيته لأصحابه. ومِن هذه الأساليب التربوية: التعليق على بعض الأقوال والمواقف والأحداث التي تقع أمامه وهو مع أصحابه، والتي من خلالها يصحح أمراً وفهما خاطئاً، أو يعطي ويكسب قيمة خلقية أو سلوكية. والسيرة النبوية زاخرة بالأمثلة الدالة على ذلك، ومنها:

أجعلتني لله ندا :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراجعه في بعضِ الكلام، فقال: ما شاء اللهُ وشئتَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أجعَلْتني مع الله عِدلًا ـ وفي لفظ: ندَّاً ـ، لا، بل ما شاءَ اللهُ وحده) رواه أحمد وحسنه الألباني. وفي رواية: (ما شاءَ اللَّهُ ثمَّ شئتَ). (عدلا ـ وفي لفظ: ندا) يعني: أجعلتني شبيهاً لله، ومثيلاً لله، وشريكاً له في المشيئة، ثم أمره أن يستبدل هذه اللفظة بلفظة التّوحيد فيقول: ما شاء الله وحده، وهذا إرشاد إلى الأكمل بأن يقول: ما شاء الله وحده، وإذا قال: ما شاء الله، ثُمَّ شئت، فهذا بيانٌ للجائز، قال الهروي: "لِمَا فيه من التسوية بين الله وبين عباده، لأن الواو للجمع والاشتراك (ولكن قولوا: ما شاء الله) أي: كان، (ثم شاء فلان) أي: ثم بعد مشيئة الله شاء فلان، لأن ثم للتراخي". وقال ابن عثيمين: "قال المؤلف (النووي) رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: باب كراهة قول الإنسان ما شاء الله وشاء فلان، والكراهة هنا يراد بها التحريم، يعني أنك إذا تقول: ما شاء الله وشاء فلان، أو: ما شاء الله وشئت، أو ما أشبه ذلك.. وذلك أن الواو تقتضي التسوية، إذا قلتَ ما شاء الله وشاء فلان كأنك جعلت فلاناً مساوياً لله عز وجل في المشيئة، والله تعالى وحده له المشيئة التامة، يفعل ما يشاء .. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا نهى عن ذلك أرشد إلى قول مباح فقال: ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان، لأن ثم تقتضي الترتيب بمهلة، يعني أن مشيئة الله فوق مشيئة فلان".

وفي غزوة حنين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض حديثي العهد بالجاهلية الذين أسلموا متأخرين بعد فتح مكة، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها. يقول أبو واقد الليثي رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة (طريقة) من كان قبلكم) رواه الترمذي وصححه الألباني. على الرغم أن من قال هذا ممن أسلم حديثا، ولم يمض على إسلامهم وقت كاف لتعلم تعاليم الإسلام، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك موقفهم وكلامهم دون تصحيح وتحذير، فوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك، وحذرهم من ذلك، ولم يعاقبهم أو يعنفهم، لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام، وجهلهم بما يقولون.

آداب المسجد :

عن أنس رضي الله عنه قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ (ما هذا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِموه (تقطعوا بوله) دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن، فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه (فصبه) عليه) رواه البخاري. قال النووي: "وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً". ومع رفق النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأعرابي، فقد استغل هذا الموقف في بيان بعض آداب المساجد والحكمة من بنائها، حيث ذكر أولا وجوب تنزيه المساجد عن النجاسات والقاذورات، ثم ذكر الحكمة من بنائها قائلا له وللصحابة ولنا كذلك من بعدهم: (إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن).

لله أرحم بعباده من هذه بولدها :
فتح النبي صلى الله عليه وسلم نوافذ مضيئة، وبث نسمات أمل في النفوس، مُبَيِّناً لأصحابه ـ ولنا من بعدهم ـ، مدى سعة رحمة الله تعالى بعباده، حتى لا يتسرب إليهم اليأس أو القنوط مهما بلغت ذنوبهم، وقد استغل النبي صلى الله عليه وسلم بعض المواقف ـ التي وقعت أمامه هو وأصحابه ـ في إظهار وإبراز هذا المعنى. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (قدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبيِ (ما يؤخذ من الكفار من ذراريهم ونسائهم في الحرب) قد تحلُبُ ثَديَها تَسقي، إذا وجدَتْ صبيًّا في السبيِ أخذَتْه، فألصقَتْه ببَطنِها وأرضعَتْه، فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أترَون هذه طارحَةً ولدها في النار؟ قُلنا: لا، وهي تقدِرُ على أن لا تطرَحه، فقال صلى الله عليه وسلم: لَلّهُ أرحَمُ بعباده من هذه بولدها) رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (مرَّ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نَفرٍ مِن أصحابه وصَبيٌّ في الطَّريق، فلمَّا رأت أُمُّهُ القوم خَشيَتْ على ولدها أن يُوطَأَ (خشيت أن يدوسه الناس بأقدامهم لصغره) فأقبلَت تسعَى وتقول: ابني ابني، وسَعَت فأخذَتْه، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتُلْقِي ابنها في النَّار، قال: فخَفَّضَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (تلطف بهم) وقال: لا، واللهُ لا يُلْقِي حَبيبَه في النَّارِ) رواه أحمد.
وعن عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: (أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم شيخ كبير هرم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدعم على عصا - أي: متكئًا على عصا - حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قُسِّمَت خطيئته على أهل الأرض لأوبقَتْهم - لأهلكَتْهم - أَلَهُ من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: نعم، وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم ادعم على عصاه، فلم يزل يردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار) رواه الطبراني وصحَّحه الألباني. قال ابن قتيبة: "أراد أنه لم يدع شيئًا دعته نفسه إليه من المعاصي إلا ركبه، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(الفرقان:70)".

استغلال بعض المواقف والأحداث في التوجيه والإصلاح من الوسائل التربوية النبوية، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستغل الحدث والموقف فيحوله إلى درس تربوي بسيط الأسلوب، قليل الكلام، عظيم الأثر، ومن ثم فالمعلم والمربي والداعية الحكيم يستثمر بعض المواقف في التربية والتعليم، والتوجيه والإصلاح، كحال وهدي نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب:21).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة