الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ترجمة معاني القرآن إلى اللغة العبرية

ترجمة معاني القرآن إلى اللغة العبرية

ترجمة معاني القرآن إلى اللغة العبرية

ليس غريباً أن يهتم اليهود على مر التاريخ بترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغتهم الأكثر ارتباطاً بهم وهي (العبرية)، وذلك لعدة أسباب، لعل في مقدمتها الحرص على الطعن في مقدسات الإسلام ومصادره الرئيسة، وفي مقدمتها القرآن الكريم. وبالنسبة للاستشراق الإسرائيلي، فقد لجأ إلى محاولة تشويه القرآن الكريم والتشكيك في مصادره، وكانت أبرز وسائله في ذلك إعداد ترجمات عبرية غير أمينة، ومشوهة لمعاني القرآن الكريم، وتزويدها بحواشٍ وهوامش، ترُدُّ المادة القرآنية لمصادر يهودية ومسيحية ووثنية.

لم يتمكن اليهود في البداية من انجاز ترجمات كاملة لمعاني القرآن الكريم، بل بدأوا بترجمات جزئية لبعض الآيات، ومن ثم لعدد من قصار السور، ومع قيام دولة إسرائيل عام (1948م) كان اليهود على إدراك جيد لمكانة القرآن الكريم في نفوس المسلمين عامة باختلاف أطيافهم ومشاربهم وتوجهاتهم.

وقد ظهرت في العصر الحديث أربع ترجمات عبرية كاملة ومطبوعة لمعاني القرآن الكريم، منها ما صدر داخل إسرائيل، ومنها ما صدر خارجها. ويمكن تقسيم هذه الترجمات وَفْقاً للتسلسل التاريخي لظهورها على النحو التالي:

أولاً: ترجمات جزئية

سُجلت أولى محاولات الترجمات الجزئية لمعاني القرآن الكريم، في صورة ترجمة جزئية لبعض آيات القرآن الكريم أيام حكم المسلمين للأندلس على أيدي الفيلسوف اليهودي (سعديا الفيومي) والشاعر اليهودي (سليمان بن جبيرول) واستخدمت هذه الترجمات ضمن كتابات الجدل الديني اليهودية للرد على الإسلام والطعن فيه، وكانت أول ترجمة لمعاني سورة كاملة للعبرية تلك التي قام بها الحبر (أفراهام حسداي) من خلال ترجمته لكتاب الغزالي "ميزان العمل".

كما شرع يهود العصور الوسطى، الذين عاشوا في كنف الإمبراطورية العثمانية الإسلامية في ترجمة بعض آيات القرآن الكريم لاستخدامها في الجدل الديني، وقد اتضحت معرفة اليهود بالقرآن الكريم من خلال مؤلفاتهم الفلسفية والدينية، أو من خلال ترجماتهم لكتب الجدل الديني والفلسفي من العربية، خاصة أعمال الإمام أبي حامد الغزالي، والفيلسوف الإسلامي ابن رشد، التي كانت تتضمن العديد من الآيات القرآنية.

ثانياً: ترجمات كاملة

يرجع تاريخ أولى نسخ ترجمة معاني القرآن الكريم كاملة للعبرية، إلى العصور الوسطى أيضاً، وكانت هذه النسخة مخطوطة بلغة عربية، لكن بأحرف عبرية مع استخدام علامات تشكيل عربية، فيما يُعرف بأسلوب الكتابة العربية- اليهودية، والنسخة الخطية موجودة حالياً في مكتبة جامعة أكسفورد بلندن. ولم تحظ هذه الترجمة حتى الآن بالطبع والتداول، إذ ما زالت مخطوطاً، يوجد نُسَخٌ منه في العديد من المكتبات العالمية. ويتكون هذا المخطوط من ثلاثة أجزاء: تناول المترجم في الجزء الأول منها بإيجاز شديد حياة رسول صلى الله عليه وسلم، والتاريخ الإسلامي حتى العصر الأموي، أما الجزء الثاني فيتضمن ترجمة معاني سبع وعشرين سورة، أما الجزء الثالث فاحتوى على ترجمة معاني إحدى وتسعين سورة. ويدل ما جاء في مقدمة المترجم أن هذه الترجمة لم تكن في الأصل عن العربية، وإنما عن ترجمة إيطالية لمعاني القرآن الكريم.

وثمة ترجمة تعود للقرن السادس عشر الميلادي، وهي تلك التي قام بها الحِبر (يعقوب بن يسرائيل هاليفي) وهي محفوظة بقاعة الآثار الشرقية بالمتحف البريطاني، وهذه الترجمة ليست نقلاً عن العربية، بل عن الإيطالية، وهذه الترجمة الايطالية منقولة ذاتها عن ترجمة لاتينية.

وتوجد أيضاً ترجمة تعود للقرن الثامن عشر الميلادي، وصاحبها غير معروف، وهي محفوظة بالمكتبة البريطانية بلندن، كما أن هناك ترجمة محفوظة بمكتبة الكونجرس الأمريكي بواشنطن، وتمت بتصرف عن ترجمة بالهولندية، ولا تتوافر أية تفاصيل أخرى عنها. ما تقدم كان ترجمات مخطوطة لم تُطْبَع وتتداول.

أما ما يتعلق بالترجمات العبرية المطبوعة لمعاني القرآن الكريم، فهي أربع ترجمات، اثنتان منها صدرتا خارج إسرائيل، قبل قيام الدولة عام (1948م) واثنتان صدرتا في إسرائيل بعد قيامها.

الترجمة الأولى: ترجمة (ريكندورف)

صدرت هذه الترجمة عام (1875م) وقام بها الحبر (حاييم هرمان ريكندروف) وهو حاخام يهودي، عمل أستاذاً للغات السامية في جامعة هيدلبرج بألمانيا. وقد حملت عنوان (القرآن: نَقْلٌ من اللغة العربية إلى اللغة العبرية مفسراً) وهي الترجمة العبرية الأولى، التي نُقلت مباشرة عن العربية، وهي نادرة الوجود، إذ لم يبق منها سوى ثلاث نسخ.

استخدم المترجم فيها الأسلوب التوراتي الخالص، وقد أسقط المترجم ترجمة العديد من المفردات والآيات القرآنية، إضافة إلى عدم إدراكه لمعنى العديد من معاني القرآن الكريم، ما أخلَّ بالسياق العام للنص.

وقد اعتمدت هذه الترجمة على جهود كثير من المستشرقين الغربيين حول القرآن الكريم، ما كان له أثر سلبي خطير على تعامل (ريكندورف) مع ألفاظ القرآن الكريم، فقد قسَّم (ريكندروف) القرآن وَفْقاً للتقسيمات الاستشراقية، وليس وَفْقاً للنص القرآني، وتضمنت ترجمته هوامش عديدة، أورد فيها فقرات من مصادر دينية ويهودية، يزعم وجود اتفاق بينها وبين بعض الآيات القرآنية.

وقد اعترف العديد من النقاد الغربيين واليهود المعنيين بالدراسات العربية والإسلامية بعدم موضوعية (ريكندروف) في ترجمة معاني القرآن الكريم، وبوجود العديد من الأخطاء فيها، سواء في الفهم، أو في الترجمة نفسها. ولم تحظَ هذه الترجمة بالقبول الواسع من جانب المتلقي اليهودي، ليس لرفضه الأحكام المسبقة والمغالطات الموجودة بها، بل لأن المترجِم استخدم لغة العهد القديم، بكل ما فيها من غموض وصعوبة، الأمر الذي جعلها غير مفهومة لكثير من يهود عصره.

الترجمة الثانية: ترجمة (ريفلين)

صدرت هذه الترجمة في فلسطين عام (1936م) وقام بها (يوسف ريفلين) وجاءت تحت عنوان (القرآن: ترجمة عن اللغة العربية). وصدرت طبعتها الثانية عام (1963م) ثم الثالثة عام (1972م) والرابعة عام (1987م). وهي الأخرى لا تخلو من الأخطاء؛ حيث أن صاحبها حاول من خلالها إثبات التأثيرات اليهودية في القرآن الكريم من خلال الهوامش العديدة التي عرضها في كل صفحة من صفحات الترجمة.

وتعد هذه الترجمة هي النسخة العبرية المعتمدة لدى قطاع كبير من الباحثين والأكاديميين اليهود والإسرائيليين المعنيين بدراسة الإسلام، وتمثل مرحلة أكثر نضجاً واتزاناً في تاريخ الاستشراق اليهودي.

وتوصف هذه الترجمة بأنها ترجمة حرفية، بسبب محاولة صاحبها مقابلة التركيب القرآني بنظيره العبري، والالتزام بأساليب القرآن الكريم قدر الإمكان. كما أن (ريفلين) حاول الاقتراب من فصاحة النص القرآني وبلاغته ما أدى إلى أن تصف دائرة المعارف اليهودية هذه الترجمة بأنها الأقرب إلى الترجمة الحرفية.

الترجمة الثالثة: ترجمة (ابن شيمش)

قام بهذه الترجمة الدكتور (أهارون بن شيمش) وصدرت طبعتها الأولى عام (1971م) تحت عنوان (القرآن المقدس: ترجمة حرة). وصدرت طبعتها الثانية عام (1978م) تحت عنوان (القرآن: كتاب الإسلام الأول، ترجمة من العربية).

وقد صدَّر (أهارون بن شيمش) ترجمته بأربع آيات من القرآن الكريم، اختارها بعناية، بغرض التأكيد على أسبقية التوراة على القرآن، وسَبْق موسى عليه السلام، على محمد صلى الله عليه وسلم، مع التأكيد على علو مكانة موسى عليه السلام في الإسلام، والإيحاء بأن الرسول والقرآن مجرد مقتفيين لما سبقهما. والآيات الأربع هي:

قوله سبحانه: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} (يونس:94).

قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت:46).

قوله عز وجل: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} (الشورى:15).

قوله جلَّ وعلا: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} (الأحقاف:12).

وتختلف هذه الترجمة عن الترجمات السابقة لها بعدم تقيد المترجم بالتقسيم المعروف لآيات القرآن الكريم، بل قام بترجمة كل خمس آيات مجتمعة، ثم يجيء الترقيم في نهاية كل خمس آيات، وليس في نهاية كل آية، كما أغفل في بعض الأحيان ذكر بعض فواتح السور المكونة من حروف منفصلة، معتقداً أن هذه الحروف اختصار لأسماء مَن أسماهم بـ "حفظة المخطوطات الأصلية للقرآن"، كما أن هذه الترجمة بشكل عام غلبت عليها الانطباعات الشخصية.

وتعد هذه الترجمة من أكثر الترجمات رواجاً بين الجمهور الإسرائيلي من غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية، أو ممن لا يعرف اللغة العربية الفصحى.

وانتهج (ابن شيميش) أسلوب ترجمة خاص به، يختلف عن أسلوب الترجمات السابقة واللاحقة؛ حيث نهج إجراء مقارنات عديدة بين النصوص اليهودية والعربية والآرامية، كما ضمن ترجمته حواشي عديدة فيها فقرات توراتية وعبارات من التلمود، ويرى أنها تشابه ما ورد في القرآن الكريم، واصطبغت هذه الترجمة بطابع اللغة العبرية الحديثة، فجاءت لغة النص المترجَم بأساليب وتركيبات بعيدة عما ورد في النص القرآني بدرجة كبيرة.

وقد قوبل نهج (ابن شيمش) في الترجمة بالنقد من جانب العديد من المتخصصين اليهود؛ لاستخدامه أيضاً لغة عبرية مبسطة بهدف خدمة المسؤولين الإسرائيليين الراغبين في الحصول على معلومات عن الإسلام.

الترجمة الرابعة: ترجمة (روبين)

تعد هذه الترجمة العبرية لمعاني القرآن هي الأحدث والأهم، وقد صدرت عن جامعة تل أبيب عام (2005م) وقام بها البروفيسور (أوري روبين) أستاذ الدراسات الإسلامية بقسم اللغة العربية بكلية الآداب-جامعة تل أبيب، وقد نالت هذه الترجمة أهميتها لسببين، الأول: أنها -كما يقول عنها صاحبها- جاءت تلبية للحاجة الماسة لترجمة عبرية جديدة للقرآن؛ لتصحيح وتنقيح الترجمات السابقة لها والإضافة عليها. الثاني: أنها صدرت في ظل متغيرات سياسية ودولية متعلقة بأوضاع المسلمين في العالم خاصة بعد أحداث (11سبتمبر) وبروز نظريات سياسية وفكرية، تتحدث عن الصراع بين الحضارات والأديان وتصادمها. وصدرت طبعتها الثانية -المزيدة والمنقحة- عام (2016م) وأصبحت -إلى وقتنا الحالي- الترجمة العبرية الأكثر انتشاراً واعتماداً حول معاني القرآن الكريم عندهم.

وتتمثل أهمية هذه الترجمة -من وجهة نظر المترجِم- في احتوائها على كثير من التعليقات والهوامش، بالإضافة إلى ملحقين، حيث يحتوي معظمها على نقد للآيات القرآنية، شملت جميع سور القرآن الكريم، عدا سورتي الضحى والعصر، وتمحورت حول فرضيات رد الآيات القرآنية إلى مصادر غير أصيلة، تنوعت بين اليهودية، والنصرانية، والوثنية.

وقد حظيت ترجمة (روبين) باحتفاء خاص من المؤسسة الأكاديمية (الإسرائيلية) لأنها أول ترجمة للقرآن تصدر في أحضانها، كما أنها الإنجاز الأضخم لمؤسسة الاستشراق الإسرائيلية. والحقيقة، فإن هذه الترجمة تمتلئ بالهوامش المليئة بالأخطاء، والمغالطات، ولا تختلف كثيراً عما سبقها من ترجمات سابقة، على الرغم من كل ما قاله المترجم في دعايته لها.

وفي المجمل، فقد امتلأت الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم بالكثير من الأخطاء، سواء المقصود منها، أو غير المقصود، وهي الأخطاء التي ارتبطت بعدد من الإشكاليات، منها ما تعلق بالترجمة نفسها، ومنها ما تعلق بفهم النص القرآني، ومنها ما تعلق بفهم الظروف التاريخية، والدينية المتعلقة بالنص، إضافة إلى الأخطاء في ترقيم الآيات القرآنية.

هذا، وتأتي الأهداف والدوافع الدينية في مقدمة ما رامت إليه الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم، وما صحبها وتبعها من مجهودات استشراقية يهودية وإسرائيلية مختلفة؛ إذ أن هناك اتفاق تام بين الباحثين في مجال الاستشراق اليهودي والإسرائيلي على أن الدافع الديني هو الدافع الأكثر قدماً، والهدف الأبرز من بين أهداف الاستشراق اليهودي والإسرائيلي المختلفة.

وجدير بالإشارة في هذا السياق إلى أن ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة العبرية أنجزها فلسطيني بهدف تعريف اليهود بالإسلام. وتمت الترجمة على يد المربي (صبحي عدوي) من بلدة طرعان قضاء الناصرة بإشراف (زيد العيس) مدير مركز "بينات" للدراسات القرآنية في عمَّان، الذي أكد على أن النص العبري ينقل معاني الذكر الحكيم نقلاً جيداً، وتوقَّع أن "يفاجَئ القارئ العبري، أو يغضب، خاصة أن هناك قصصاً متشابهة بين القرآن والتوراة مع الاختلاف بطريقة عرضها وبالموقف من قصص الأنبياء". وجاءت هذه الترجمة تحت عنوان (القرآن بلغة أخرى) وقصد المترجم بذلك اختلاف ترجمته عن ترجمات سابقة، لم تنجُ من أهواء وتدخلات المترجمين.

وفي الختام يلزم القول: إن إعداد ترجمة عبرية حديثة لمعاني القرآن الكريم عمل ينطوي على الكثير من الأهمية العلمية والثقافية؛ لكون ترجمة القرآن الكريم تحتاج لإتقان الكثير من العلوم، وتوافر العديد من الأدوات؛ لتخرج في النهاية ترجمة صحيحة موضوعية، خالية من الأخطاء والشبهات. كما أن هذا العمل ينطوي على خطورة شديدة و"حساسية" بالغة؛ وذلك نظراً لأمرين، أولهما: المكانة العظيمة التي يحتلها القرآن في نفوس كل المسلمين. ثانيهما: تراث العداء والكراهية المتبادلة بين المسلمين والعرب من جانب، واليهود ودولة إسرائيل ككيان سياسي من جانب آخر.

* مادة المقال مستفادة بتصرف من بحث بعنوان (الترجمات العبرية لمعاني القرآن الكريم...التاريخ، والأهداف، والإشكاليات) د. أحمد البهنسي.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة