الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العدول عن تكرير اللفظ

العدول عن تكرير اللفظ

العدول عن تكرير اللفظ

من سَنَن العرب في الكلام البعد عن تكرير اللفظ نفسه، بل يعمدون إلى الإتيان باللفظ المرادف، أو بلفظ يفيد معنى اللفظ المعدول عنه، قال السيوطي: "قد يستثقلون تكرار اللفظ، فيعدلون لمعناه". وقال الزمخشري: "ليس بواجب أن يجاء بالآكد في كل موضع، ولكن يجاء بالوكيد تارة، وبالآكد أخرى، كما يجاء بالحسن في موضع، وبالأحسن في غيره؛ ليفتن الكلام افتناناً".

والقرآن الكريم جاء على وفاق لسان العرب، وكان من أساليبه البلاغية العدول عن تكرير اللفظ. وقد ذكر المفسرون هذا الأسلوب، وبينوا أنه وقع في القرآن كثير منه، يقول ابن عاشور: "ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه...وقد وقع في القرآن كثير من هذا".

ونذكر تالياً أمثلة مما عُدِل فيه عن تكرير اللفظ والصيغة في القرآن الكريم:

- قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} (التحريم:4) فجاء بلفظ (قلوب) جمعاً، مع أن المخاطب امرأتان، فلم يقل: قلباكما؛ تجنباً لتعدد صيغة المثنى.

- ومن ذلك قوله سبحانه: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} (الأنعام:139) رُوعي معنى (ما) الموصولة مرة، فأتى بضمير جماعة المؤنث، وهو {خالصة} ورُوعي لفظ (ما) الموصولة، فأتى بـ (مُحَرَّم) مذكراً مفرداً. والمقام قد يقتضي شيئين متساويين، أو أشياء متساوية، فيكون البليغ مخيَّراً في أحدهما.

- ومنه كذلك قوله عز وجل: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا} (البقرة:35) بـ (واو) العطف {وكلا} وقال سبحانه في موضع آخر: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما} (الأعراف:19) بـ (فاء) التفريع {فكلا} وكلاهما مطابق للمقام؛ فإنه أمر ثانٍ، وهو أمر مُفَرَّع على (الإسكان) فيجوز أن يُحكى بكلٍّ من الاعتبارين.

- وقال سبحانه في خطاب بني إسرائيل: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا} (البقرة:58) وقال تعالى: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم} (الأعراف:161) فعبَّر مرة بـ {ادخلوا} وأُخرى بـ {اسكنوا} وعبَّر مرة بـ (واو) العطف {وكلوا}، وأُخرى بـ (فاء) التفريع {فكلوا}. قال ابن عاشور: "وهذا التخالف بين الشيئين يُقْصَدُ لتلوين المعاني المعادة؛ حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى، وتغاير أسلوب، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير".

- قوله عز وجل: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} (مريم:90) (التفطر) الانشقاق، والجمع بين فعل (تفطر) السموات، وبين فعل {وتنشق الأرض} تفنن في استعمال المترادف؛ لدفع ثقل تكرير اللفظ.

- قوله تبارك وتعالى: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} قال ابن عاشور: "لم يؤتَ مع هذه الدعوات بقوله: {ربنا} إما لأنه تكرر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات، إلا في مقام التهويل، وإما لأن تلك الدعوات المقترنة بقوله: ربنا، فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيبت تلك، حصلت إجابة هذه بالأولى؛ فإن العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرة أصل لرفع المشقة، والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلما كان تعميماً بعد تخصيص، كان كأنه دعاء واحد".

- قوله عز وجل: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} (الطارق:17) لما أُعيد اللفظ، غيَّر (فَعِّل) = {فمهل} إلى (أفعل) = {أمهلهم} فلما ثلَّث ترك اللفظ أصلاً، فقال: {رويدا}. قال ابن عاشور: "وخولف بين الفعلين في التعدية، مرة بالتضعيف، وأُخرى بالهمز؛ لتحسين التكرير. و{رويدا} تصغير رُود -بضم الراء بعدها واو- ولعله اسم مصدر، وأما قياس مصدره فهو رَوْد -بفتح الراء وسكون الواو- وهو المـَهَل -بفتحتين- وعدم العجلة، وهو مصدر مُؤَكِّد لفعل {أمهلهم} فقد أكد قوله: {فمهل الكافرين} مرتين".

- قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام والخضر: {لقد جئت شيئا إمرا} (الكهف:71) (الإِمْر) -بكسر الهمزة- هو العظيم المفظع. يقال: أَمِرَ -كفَرِحَ- إِمْراَ، إذا كثر في نوعه؛ ولذلك فسره الراغب بـ (المنكر) لأن المقام دال على شيء ضار. ثم قال بعدُ في القصة نفسها: {لقد جئت شيئا نكرا} (الكهف:74) (نُكُر) -بضمتين- الذي تنكره العقول وتستقبحه، فهو أشد من الشيء (الإِمْر) قال الكسائي: "معناه شيئاً منكرا ًكثير الدهاء من جهة الإنكار، من قولهم: أَمِرَ القوم إذا كثروا" قال أبو علي الفارسي: "وأنا أستحسن قوله هذا".

- قوله سبحانه: {قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا} (الحديد:13)، قال أبو علي الفارسي: {وراءكم} في موضع فعل الأمر، أي: تأخروا، والمعنى: ارجعوا تأخروا، فهو تأكيد، وليست ظرفاً؛ لأن الظروف لا يؤكد بها". وهذا ما أكده ابن عاشور بقوله: "و{وراءكم} تأكيد لمعنى {ارجعوا} إذ الرجوع يستلزم الوراء، وهذا كما يقال: رجع القهقرى" فكأنه قال: ارجعوا، ارجعوا.

- قوله عز وجل: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} (الأنعام:125) أكد اللفظ {ضيقا} بمرادفه {حرجا} قال ابن عاشور: "وإتباع (الضيق) بـ (الحرج) لتأكيد معنى (الضيق) لأن في (الحرج) من معنى شدة الضيق ما ليس في (ضيق). والمعنى يجعل صدره غير متسع لقبول الإسلام، بقرينة مقابلته بقوله: {يشرح صدره للإسلام} (الأنعام:125).

- قوله تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} (الأحقاف:26) من بديع النظم القرآني هنا أن جاء النفي بحرف {إن} النافية، مع أن النفي بها أقل استعمالاً من النفي بـ (ما) النافية؛ قصداً هنا لدفع الكراهة من توالي مِثْلَيْن في النطق، وهما (ما) الموصولة، و(ما) النافية، وإن كان معناهما مختلفاً.

- أخيراً وليس آخراً قوله عز وجل: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود} (فاطر:27) (غرابيب) جمع غربيب، و(الغربيب) اسم للشيء الأسود الحالك سواده، ولا تُعرف له مادة مشتق هو منها، قال ابن عاشور: "وأحسب أنه مأخوذ من الجامد، وهو الغراب لشهرة الغراب بالسواد". و{سود} جمع أسود، وهو الذي لونه السواد. فـ (الغربيب) يدل على أشد من معنى أسود، فكان مقتضى الظاهر أن يكون (غرابيب) متأخراً عن {سود} لأن الغالب أنهم يقولون: أسود غربيب، كما يقولون: أبيض ناصع، وأصفر فاقع، وأحمر قان، ولا يقولون: غربيب أسود، وإنما خولف ذلك؛ لرعاية الفاصلة القرآنية المبنية على (الواو) و(الياء) الساكنتين قبل هذه الآية وبعدها.

وبما تقدم من أمثلة يظهر مدى توارد أسلوب العدول عن تكرير اللفظ في القرآن الكريم، وأنه أسلوب القصد منه تفادي تكرار اللفظ بعينه، والإتيان بمرادفه، أو بلفظ يؤدي معناه، ويخالف مبناه، تأكيداً له.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة