الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفجور

الفجور

الفجور

مما لا شك فيه أن الفُجُور دليلٌ على خِسَّة النَّفس، ودناءة الشَّخص، وعنوانٌ للانحطاط الأخلاقي.
كما أنه خُلُقٌ يدعو لكراهية صاحبه، ويجعله ممقوتًا مِن الخَلْق، ممَّا يزرع الشَّحناء والبغضاء في المجتمع.
كما أنَّ هذه الصِّفة لا يقتصر ضررها على الفاجر وحده، بل يتعدى ضررها إلى الأفراد والمجتمعات.
ولو لم يَرد في ذم الفجور إلا قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنَّ الفُجُور يهدي إلى النَّار". لكفى به زاجرا.

فما معنى الفجور؟
أصل الفجور: الميل والعدول، وإنما قيل للكذب: الفجور، وللكاذب: الفاجر؛ لميلِه عن الصدق، وعدوله عنه.
كما أن هذه المادة تدل على التَّـفَتُّح في الشَّيء، ومنه: انفجَرَ الماء انفجارًا: تفتَّحَ. والفُجْرَة: موضع تفتُّح الماء. ثمَّ كثُر هذا حتَّى صار الانبعاثُ والتفتُّح في المعاصي فُجورًا؛ ولذلك سُمِّي الكَذِب فجورًا. ثمَّ كثُر هذا حتَّى سُمِّي كلُّ مائلٍ عن الحقِّ فاجرًا.
الفجور اصطلاحًا:
قال الجاحظ: (الفجور: هو الانهماك في الشهوات، والاستكثار منها، والتوفر على اللذات، والإدمان عليها، وارتكاب الفواحش، والمجاهرة بها، وبالجملة: هو السرف في جميع الشهوات).
وهكذا فإنك ترى أن الفُجُور: اسم جامع لكلِّ شرٍّ، من الميل إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي.

قبح الفجور وذمه:
بيَّن الله تعالى في كتابه قبح الفجور، ومنزلة الفجار وأنهم في النار:
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص: 28].
وقال تعالى: { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)}(الانفطار).

والفجور من خصال المنافقين؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع خلال مَن كن فيه كان منافقًا خالصًا: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خَصلة منهن، كانت فيه خَصلة من النفاق حتى يَدَعَها".
قال ابن بطال: (الفُجُور: الكذب والرِّيبة، وذلك حرام، ألَا ترى أنَّ النَّبيَّ -عليه السلام- قد جعل ذلك خصلة مِن النِّفاق).

موت الفاجر راحة للبلاد والعباد
فعن أبي قتادة بن ربعي، أنَّه كان يحدِّث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فقال: "مستريح ومُستَرَاحٌ منه". قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: "العبد المؤمن يستريح مِن نصب الدُّنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشَّجر والدَّواب".
قال الباجيُّ: (قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى الجنازة: "مستريح ومستراح منه". يريد أنَّ مَن توفي مِن النَّاس على ضربين: ضرب يستريح، وضرب يُسْتَراح منه، فسألوه عن تفسير مراده بذلك، فأخبر أنَّ المستريح: هو العبد المؤمن يصير إلى رحمة الله وما أُعِدَّ له مِن الجنَّة والنِّعمة، ويستريح مِن نصب الدُّنيا وتعبها وأذاها، والمستراح منه هو العبد الفاجر، فإنَّه يستريح منه العباد والبلاد والشَّجر والدَّواب، ويحتمل أن يكون أذاه للعباد بظلمهم، وأذاه للأرض والشَّجر: بغصبها مِن حقِّها وصرفها إلى غير وجهها، وإتعاب الدَّواب بما لا يجوز له مِن ذلك، فهذا مستراح منه).

ومن الفجور الحلف الكاذب
وهو من أعظم المحرمات. ومن حلف كاذبا عرَّض نفسه للعديد من العقوبات ومنها:
‌- ما ورد في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهمُ اللهُ يومَ القيامة، ولا يَنظُرُ إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ، قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، مَن هُم؟ فقد خابوا وخَسِروا، قال: المنَّانُ، والمُسبِلُ، والمُنفِقُ سِلعَتَه بالحَلِفِ الفاجِرِ".

- إعراض الله عنه يوم القيامة؛ ففي "صحيح مسلم" أيضًا عن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة؟"، قال: لا، قال: "فلك يمينه"، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شيء، فقال: "ليس لك منه إلا ذلك"، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما أدبر -: "أما لئن حلف على مال ليأكله ظلمًا، ليلقين الله وهو عنه مُعرِض".

- يلقى اللهَ وهو عليه غضبان؛ فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان"، فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 77)، قال: فدخل الأشعث بن قيس، وقال: ما يحدثكم أبو عبدالرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فيَّ أنزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينتك أو يمينه"، فقلت: إذن يحلف يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، وهو فيها فاجرٌ لقي اللهَ وهو عليه غضبان".
وأكثر ما يكون الحلف الكاذب من التجار؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن التجار يُبعَثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبَرَّ وصدَق".

الفجور يهدي إلى النار:
قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14).

وعند البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدُقُ ويتحرَّى الصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".
وقال سفيان الثَّوري رحمه الله: (إيَّاك والحدَّة والغضب، فإنَّهما يجرَّان إلى الفُجُور، والفُجُور يجرُّ إلى النَّار).

اجتنب صحبة الفجار ومجالستهم
من الأمور المتفق عليها بين بني البشر أن الطبع يسرق من الطبع، وأن طول الصحبة يؤثر في السلوك والأخلاق إيجابا أو سلبا، وإذا كان الأمر كذلك فحري بالمؤمن أن يجتنب صحبة الفجار ومجالستهم.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تعرض لما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحذر صديقك مِن القوم إلَّا الأمين، ولا أمين إلَّا مَن خشي الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فيعلِّمك مِن فجوره، ولا تُطْلِعه على سرِّك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله).
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا تواخ الفاجر؛ فإنَّه يزيِّن لك فعله، ويحبُّ لو أنَّك مثله، ومدخله عليك ومخرجك مِن عنده شَيْنٌ وعار).
وقال العز بن عبد السلام: (فِراق الفجرة من شيم البررة؛ لأن جليس السوء كنافخ الكير).
وقد ذكر الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(المائدة:25). وقد قيل في تفسيرها إنه طلب القضاء بينه وبينهم، وقيل: افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر:
يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين
نسأل الله تعالى أن يرزقنا البر وصحبة الأبرار، وأن يجنبنا الفجور وصحبة الفجار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة