الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاستعاذة بغير الله شرك

الاستعاذة بغير الله شرك

الاستعاذة بغير الله شرك

الاستعاذة معناها طلب الوقاية والحماية، ولهذا يُسَمَّى المُسْتعاذ به: مَعاذاً ومَلجَأً. والاستعاذة بالله عز وجل أن تسأله أنْ يُحَصِّنَك ويحميك مما تخافه وتحذر منه.
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": "اعلم أن لفظ "عاذ" وما تصرف منها يدل على التحرُّز والتحَصُّن والالتجاء. وحقيقة معناها: الهروب مِنْ شيء تخافه إلى مَن يعصمك منه، ولهذا يُسَمَّى المُستعاذ به "مَعَاذا".. فمعنى "أعوذ": ألتجئ وأعتصم وأتحرَّز". وقال ابن كثير: "الاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه مِنْ شر كل ذي شر".
والاستعاذة بالله دعاء وعبادة لله عز وجل كالاستعانة والاستغاثة. قال ابن تيمية: "فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة: كلها من نوع الدعاء أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة". وقال الشوكاني: "وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا مِنْ غيره، قال تعالى: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}(الجن:18)، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ}(الرعد:14)".

وقد دلَّ القرآن الكريم والسنة النبوية، وإجماع العلماء من السلف والخلف، على دعاء الله عز وجل وحده، وتحريم دعاء غير الله، والتصريح بأنَّ مَنْ دعا غير الله، أو استغاث أو استعاذ بغير الله ـ فيما لا يقدر عليه إلا الله ـ، فقد وقع في الشرك، سواء كان هذا المدعو والمستغاث والمُسْتعاذ به نبيًّا مِنَ الأنبياء، أو وليًّا من الأولياء، فضلا عن غيرهم. قال الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ}(يونس:106). قال القرطبي: "قوله: {وَلا تَدْعُ} أَيْ لَا تعبد". وقال ابن تيمية: "فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح... وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلتُ عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال". وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّه) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال الشيخ ابن عثيمين: "(إذا سألتَ فاسأل الله) إذا سالت حاجة فلا تسأل إلا الله عز وجل ولا تسأل المخلوق شيئا، وإذا قُدِّرَ أنك سألتَ المخلوق ما يقدر عليه، فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عز وجل، لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك فاعتمد على الله تعالى.. وإذا استعنتَ بمخلوق فيما يقدر عليه فاعْتَقِد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه مِنْ نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله".

وقد أمرنا الله عز وجل بالاستعاذة به في الكثير من آيات القرآن الكريم. وكذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله سبحانه في مواطن وأحاديث كثيرة، ومن ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأعراف:200).
2 ـ وقال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(النحل:98).
3 ـ وقال عز وجل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(فصلت:36). قال السُّدِّيِّ: "النَزْغ: الوَسْوَسَة وَحَدِيثُ النَّفْس".
وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}(المؤمنون:98:97)، قال ابن الجوزي في "زاد المسير في علم التفسير": {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ} أي: ألجأ وأمتنع بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ.. وقوله تعالى: {أَنْ يَحْضُرُونِ} أي: أن يَشْهَدُون والمعنى: أن يصيبوني بسوء، لأن الشيطان لا يحضر ابن آدم إِلا بسوء".
4 ـ وقال سبحانه: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(غافر:56).
5 ـ وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}(الفلق:1)، وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}(الناس:1). وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه بهاتين السورتين وقال: (تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِما) رواه أبو داود وصححه الألباني. قال ابن القيم في كلامه على المعوِّذتين: "المقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر، والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعانة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النَّفَسِ والطعام والشراب واللباس".

أحاديث في استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْر، وَمِنْ عَذَابِ النَّار، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَات، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّال) رواه البخاري. وفي رواية مسلم (وَمن شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّال).
2 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْز وَالْكَسَل، والْجُبْن وَالْهَرَم، والْبُخْل، وأَعُوذ بِكَ مِنْ عَذَاب الْقَبْر، وَمِنْ فِتْنَة الْمَحْيَا وَالْمَمَات) رواه البخاري.
3 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كان مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِك، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِك، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِك، وَجَمِيعِ سَخَطِك) رواه مسلم.
4 ـ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ما خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم من بيتي قَطُّ إلا رفع طَرْفَه إلى السماء فقال: اللهم أعوذُ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَم، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
5 ـ وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ـ قال عثمان ـ: وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امْسَحْه (مكان الألم) بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّات، وقل: أَعُوذُ بِعِزَّة اللَّه وَقُدْرَتِه مِنْ شَرِّ مَا أَجِد. قال: فَفَعَلْتُ ذلِك فَأَذْهَب اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِه أَهْلي وَغَيْرَهم) رواه الترمذي وصححه الألباني.

فوائد:

1 ـ لا خلاف في أنه تجوز الاستغاثة والاستعاذة بالمخلوق ـ إذا لم يكن ميتاً ـ فيما يقدر عليه، فهذا من باب إعانة الخَلْق بعضهم لبعض، ومِن الأسباب التي للمسلم الأخذ بها في حياته إذا أصابته مصيبة أو خاف شيئاً. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منِ استعاذَكم بالله فأعيذوه، ومن سألكمْ باللهِ فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه) رواه أبوداود وصححه الألباني. قال في "عون المعبود":" مَنِ استعاذ بكم.. أي طلب منكم دفع شركم أو شر غيركم قائلاً: "بالله عليك أن تدفع عني شَـرَّك"، فأجيبوه وادفعوا عنه الشر تعظيماً لاسم الله تعالى". وأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كغفران الذنوب، وإنزال الرزق، وكل ما هو من خصائص الربوبية، فلا يُستغاث أو يُستعاذ فيه إلا بالله عز وجل، قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}(الأنفال:9) وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(النحل:98).
2 ـ عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: (فقَدْتُ (لم أجد) رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَة مِنَ الْفِرَاش فَالْتَمَسْتُه (بحثت عنه)، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْه وهو فِي الْمَسْجِد - وفي رواية وَهُوَ سَاجِد - وَهُمَا مَنْصُوبَتَان وهو يقول: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِك، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْك، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك) رواه مسلم. قال ابن عبد البر: "وأما قوله في هذا الحديث (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْك) فهو في معنى قوله: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك)". وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين": "فاستعاذ بصفة الرضا مِنْ صفة الغضب، وبفعل العافية مِنْ فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين، وكأن في استعاذته منه جمعا لما فصَّله في الجملتين قبله، فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة، وهي كمال التوحيد، وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه: إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره، فهو وحده المنفرد بالحكم، فإذا أراد بعبده سوءا لم يعذه منه إلا هو".
وقال النووي: "قال الخطابي: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله عز وجل، استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه".
3 ـ عن خَوْلَةَ بِنْت حَكِيمٍ السُّلَمِيَّة رضي الله عنها قالت: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ نزل منْزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك) رواه مسلم. قال القرطبي في "المفهم لما أشكل من كتاب تلخيص مسلم": "وقيل: الكلمات هنا: هي القرآن".
قال الشيخ ابن عثيمين: "القرآن كلام الله". ومما استدل العلماء على أن القرآن كلام الله، قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بها، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. قال نعيم بن حماد: "دلت هذه الأحاديث على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لم يُسْتَعذ بها، إذ لا يُستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأعراف:200)". وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "وقد نص الأئمة - كأحمد وغيره - على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك". وقال ابن حجر: "والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه، والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله، وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك".

جاء الإسلام بأعظم معروف وهو توحيد الله عز وجل، ونهى عن أعظم منكر وهو الشرك بالله، وذلك لأن أعظم ذنب عُصِيَ به الله عز وجل الشرك به، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان:13). فالواجب على المسلم أن يحذر كل الحذر مِنَ الشرك صغيره وكبيره، وأن يجتنب ويبتعد كل البعد عن الوسائل والأسباب القولية والفعلية التي تؤدي إليه وتوقع فيه..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة