الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

غزوة العُشَيْرَة

غزوة العُشَيْرَة

غزوة العُشَيْرَة

في جمادى الأولى وبعض ليالي من جمادى الآخرة من السنة الثانية من الهجرة النبوية، كانت غزوة العشيرة التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها يطلب قافلة لقريش ذاهبة إِلى الشام، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه، وأعطى اللواء لحمزة بن عبد الطلب رضي الله عنه، وكان عدد المسلمين فيها مائة وخمسين من المهاجرين، سار بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ العُشَيْرة ـ وهي موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع ـ، فوجد العير والقافلة قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي صارت سببا لغزوة بدر الكبرى.
قال ابن حجر: "وأما العُشَيْرة فلم يختلف على أهل المغازي أنها بالمعجمة والتصغير وآخرها هاء، قال ابن إسحاق: هي ببطن ينبع، وخرج إليها جمادى الأولى يريد قريشاً أيضا". وغزوة الْعُشَيْرَة لها أسماء متعددة مذكورة في كتب السيرة النبوية وغيرها، منها: ذي العشيرة، والعشير، والعشيراء، والعسير، والْعُسَيْرَة، وفي البخاري أن قتادة سُئِل فقال: العُشَيْرَة، قال ابن حجر: "وقول قتادة هو الذي اتفق عليه أهل السِّير، وهو الصواب".
وفي غزوة العشيرة وادعَ النبي صلى الله عليه وسلم بني مدلج وحلفاءهم وعقد معهم معاهدة. قال ابن حجر: "فوادع فيها (غزوة العشيرة) بني مدلج من كنانة". وقد كنَّى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بأبي تراب.

موادعة بني مدلج وحلفاءهم من بني ضَمْرة:
في غزوة العُشَيْرَة عقد النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقاً ومعاهدة مع بني مُدْلِج وحلفائهم من بني ضَمْرة، وقد شرط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ألا يحاربوا الإسلام أو يقفوا في طريقه، ومن ثم فتعتبر هذه المعاهدة مَكْسباً سياسياًّ وعسكرياًّ للمسلمين. وكانت نسخة وصيغة الموادعة والمعاهدة: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة (كناية على التأبيد والاستمرار)، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله".
قال الزرقانيُّ: "وتقدم في ودَّان أنه وادع بني ضمرة، فلعلها تأكيد للأولى أو أن حلفاء بني مُدْلِج كانوا خارجين عن بني ضَمْرة لأمر ما وبسببه حالفوا بني مُدْلِج". وفي "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية": "قال السهيلي: (بسم الله الرحم الرحيم) فيه ندْب افتتاح الكتب بالبسملة فقط، وقد جمعتُ كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم فوجدت مفتتحة بها دون حمدلة وغيرها، (هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضَمْرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم) أي: قصدهم بسوء.. يريد منهم: أن لا يحاربوا في نصرة دين الله "ما بلَّ بحر صوفة" كناية عن تأييد مناصرتهم، إذ معلوم أن ماء البحر لا ينقطع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله" بكسر الذال المعجمة، أي: عهده وعهد رسوله".

تكنية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بأبي تراب:
في غزوة العشيرة كنَّى النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأبي تراب. ففي السيرة النبوية لابن هشام: "عن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه قال: (كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها، رأينا أناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل، فقال لي علي بن أبي طالب: يا أبا اليقظان (كُنْيَة عمَّار)، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم، فننظر كيف يعملون؟ قال: قلتُ: إن شئتَ، قال: فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم. فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور (صغار) من النخل، وفي دقعاء من التراب (التراب اللين) فنمنا، فو الله ما أهبنا (أيقظنا) إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله، وقد تتربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ما لك يا أبا تراب؟ لما يرى عليه من التراب.. قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمَّى عليَّاً أبا تراب، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها، ولم يقل لها شيئا تكرهه، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة، فيقول: ما لك يا أبا تراب؟ فالله أعلم أي ذلك كان".
قال السهيلي: "وصح من ذلك ما رواه البخاري في جامعه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده في المسجد نائما وقد ترب جنبه، فجعل يحت التراب عن جنبه ويقول: قُمْ أبا تراب. وكان قد خرج إلى المسجد مغاضبا لفاطمة. وهذا معنى الحديث. وما ذكره ابن إسحاق من حديث عمار مخالف له إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كناه بها مرتين: مرة في المسجد، ومرة في هذه الغزوة".
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "وغزوة العُشيرة كانت في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر وذلك قبل أن يتزوج علي فاطمة، فإن كان محفوظا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم في حق علي. والله أعلم".

فائدة:
أول وعدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قيل له: (كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، قيل: كم غزوتَ أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قُلْتُ: فأيهم كانت أول؟ قال: العشير أو العسيرة، فذكرت لقتادة فقال: العشيرة) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وقول قتادة هو الذي اتفق عليه أهل السِّير، وهو الصواب، وأما غزوة العُسيرة بالمهملة فهي غزوة تبوك، قال تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}(التوبة: 117)، وسُميت بذلك لِما كان فيها من المشقة.. وأما هذه (العشيرة) فنُسِبت إلى المكان الذي وصلوا إليه، واسمه: العشير أو العشيرة، يُذكَّر ويؤنث". وقال ابن كثير: "وهذا الحديث - حديث زيد - ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة.. اللهم إلا أن يكون المراد غزاةً شهدها مع النبي الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم العُشيرة، وحينئذ لا ينفي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم، وبهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث".
وقال ابن حجر: "قوله: (تسع عشرة) كذا قال، ومراده الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون وإسناده صحيح وأصله في مسلم. فعلى هذا ففات زيد بن أرقم ذِكْر اثنتين منها ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ: (قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العشير أو العشيرة)، والعشيرة كما تقدم هي الثالثة، وأما قول ابن التين: يحمل قول زيد بن أرقم على أن العشيرة أول ما غزا هو ـ أي زيد بن أرقم ـ، فقلت: ما أول غزوة غزاها أي وأنت معه؟ قال : العشير، فهو محتمل أيضا، ويكون قد خفي عليه اثنتان مما بعد ذلك، أو عدَّ الغزوتين واحدة". ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال: (غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، لم أشهَدْ بدراً ولا أُحُداً، منعني أبي، فلما قُتِل عبد الله (والده) يوم أُحُد لم أتخلَّفْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط). قال النووي: "هذا صريح بأن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن منحصرة في تسع عشرة، بل زائدة، وإنما مراد زيد بن أرقم وبُريدة بقولهما: تسع عشرة، أن منها تسع عشرة".
وبعد أن عدَّدَ ابن حجر أقوال واختلاف أهل السِيَر في عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أوجهاً للجمع بينها، منها: أن الذي ذكر العدد الكثير عدَّ كل وقعة على حدة وإن تقاربت مع غيرها في الزمن، وأن الذي ذكر العدد القليل أو المتوسط ربما جمع الغزوتين المتقاربتين زماناً فعدهما غزوة واحدة كالخندق وبني قريظة، وكحنين والطائف. وقال الزرقاني: "ويمكن الجمع على ـ نحو ما قال السهيلي ـ بأن من عدَّها دون سبع وعشرين نظر إلي شدة قرب بعض الغزوات من غيرها، فجمع بين غزوتين وعدَّهما واحدة".

ومن خلال غزوة ذي العشيرة استفاد المسلمون فوائد متعددة، منها ما يتعلق بإلقاء الخوف في قلوب عدوهم من مشركي قريش وغيرهم، ومنها: عقد معاهدات مع بعض القبائل التي كانت تعاون وتساعد قريش في حربها ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: إضعاف معنويات قريش وضرب نشاطها التجاري، بالإضافة إلى ما يتعلق بتقوية جيش المسلمين، وتدريبه ـ بدنيا ونفسياً ـ على الصبر والجهاد في سبيل الله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة