الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرُؤَى والأحلام في الهَدي النبوي

الرُؤَى والأحلام في الهَدي النبوي

الرُؤَى والأحلام في الهَدي النبوي

الرُؤْيا ما يراه الإنسان في منامه حسناً، خاصة رؤيا الأنبياء والصالحين، والغالب أن الرؤى في الخير، والحُلم في غيره. عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا الصالحة من الله، والحُلْمُ من الشيطان) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّة إلَّا المُبَشِّرات. قالوا: وما المُبَشِّرات؟ قالَ: الرُّؤْيا الصَّالِحة) رواه البخاري. قال ابن بطال: "قوله صلى الله عليه وسلم ـ: (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّة إلَّا المُبَشِّرات) خرج على الأغلب من حال الرؤيا، وقد قال محمد بن واسع: الرؤيا بشرى للمؤمن، ولا تغره، قال الطبري: فإن قال قائل: فإن كانت كل رؤيا حسنة وحى من الله وبشرى للمؤمنين، فما باله يرى الرؤيا الحسنة أحيانًا، ولا يجد لها حقيقة في اليقظة؟ فالجواب: أن الرؤيا مختلفة الأسباب فمنها: مِن وسوسة وتخزين للمؤمن، ومنها: مِن حديث النفس في اليقظة فيراه في نومه، ومنها: ما هو وحي من الله، فما كان من حديث النفس ووسوسة الشيطان فإنه الذي يكذب، وما كان من قِبل الله فإنه لا يكذب".
والرؤى تنقسم إلى ثلاثة أقسام: رؤيا حق من الله عزَّ وجلَّ: وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وهي التي لها تعبير وتفسير، ورُؤيا باطلة: فهي أضغاث أحلام من تهويل الشَّيطان وتحزينه لابن آدم، فلا ينبغي تعبيره، بل ولا التحدث بها، وما يُحدِّث به الرَّجُل نفْسه ويهتم به في اليقظة فيراه في منامه. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا ثلاثٌ، فبُشرَى مِن الله، وحديثُ النَّفس، وتخويف من الشَّيطان) رواه ابن ماجه. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان لِيَحْزُنَ به ابنَ آدم، ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزءً من ستة وأربعين جُزْءًا من النبوة) رواه ابن حبان.

والسُنة والسيرة النبوية مليئة بالأحاديث والآثار المتعلقة بالرؤى من تعظيم شأنها، وأنها من أجزاء النبوة، وأنها من المبشرات الباقيات بعد النبوة، ففي صحيح البخاري: "كتاب التعبير" اشتمل على تسعة وتسعين حديثاً، وفي صحيح مسلم: "كتاب الرؤيا" واشتمل على أربعين حديثاً، وفي سنن الترمذي: "كتاب الرؤيا" واشتمل على خمسة وعشرين حديثاً، وفي السنن الكبرى للنسائي: "كتاب التعبير" وفيه: ثمانية وثلاثين حديثاً، وفي سنن ابن ماجه: "كتاب تعبير الرؤيا" واشتمل على أربعة وثلاثين حديثاً.
وتفسير الرؤى والأحلام جائز شرعا، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه ورؤيا غيره، وفسرها أبو بكر رضي الله عنه. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه كان يحدث: (أن رجلا أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيتُ الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، وأرى الناس يتكففون منها بأيديهم، فالمستكثر والمستقل، وإذا بسبب واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذتَ به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل له فعلا، فقال أبو بكر: يا رسول الله، بأبي أنت، والله، لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعْبُرْهَا (فسِّرْها)، قال أبو بكر: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن: حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به، ثم يأخذ رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله - بأبي أنت ـ: أصبتُ أم أخطأتُ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبتَ بعضا وأخطأتَ بعضا، قال: والله لتحدثني بالذي أخطأتُ به، قال: لا تقسم) رواه البخاري. هذا الحديث يدل على جواز تفسير الرؤيا، وعلى جواز ذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ينبغي أن يكون مَنْ يفسرها مِنْ أهل الخبرة في تعبيرها، وأما من ليس عنده علم بها فلا يجوز له ذلك، فقد قيل للإمام مالك: "أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: لا، أبالنبوة يلعب؟!"، وقال: "لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيراً أخبر به، وإن رأى غير ذلك فليقل خيراً أو ليصمت".

الرؤيا الصالحة جزء من النبوة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) رواه البخاري. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "إن لفظ النبوة مأخوذ من النبأ، والإنباء، وهو الإعلام في اللغة، والمعنى أن الرؤيا إنباء صادق من الله، لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله، الذي لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب". وقال ابن حجر: "وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة مع أن النبوة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل في الجواب: إن وقعت الرؤيا من النبي صلى الله عليه وسلم فهي جزءٌ من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي فهي جزءٌ من أجزاء النبوة على سبيل المجاز، وقال الخطابي: قيل معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزءٌ باق من النبوة".

آداب لِمَن رأى رؤيا يكرهها:
الرؤيا المفزعة والمحزنة سببها الشيطان ليحزن بها المؤمن، وليس بضاره شيئاً إلا بإذن الله، فمن رأى شيئا من ذلك وفعل ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فإن تلك الرؤيا لن تضره إن شاء الله تعالى مهما كانت. عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (لقد كنتُ أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: وأنا كنتُ لأرى الرؤيا تمرضني، حتى سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره، فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثا، ولا يحدث بها أحدا، فإنها لن تضره) رواه البخاري. وفي رواية مسلم: (إن كنتُ لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها).
والعلاج في دفع أذى الرؤى والأحلام المزعجة هو التمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه والآداب التي أرشد إليها.. قال ابن حجر في "فتح الباري": "فحاصل ما ذُكِر مِن أدب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره. وحاصل ما ذُكِر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وأن يتفل (إإخراج الهواء بشيء من الريق البسيط) حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا، ولا يذكرها لأحد أصلا.. ووقع عند المصنف في باب القيد في المنام عن أبي هريرة خامسة وهي: الصلاة ولفظه: (فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل)".

فائدة:
ينبغي على المسلم أن يحذر المغالاة في باب الرؤى والأحلام، فلا يطلب سؤال رؤيا إلا ما رأى أنها تستحق التعبير، وإن ترك السؤال مطلقا فلا حرج، وأن يحذر مِن مُدعي تعبير الرؤى من الجُهال وأهل الشعوذة الذين يدّعون علم الغيب، ويروجون على الناس أمورا مخالفة لهدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى تعبير المنامات، فلا يعرض رؤياه إلا على أهل العلم والخبرة والدِيانة، صِيانة لدينه وعقيدته، ولا يعرض إلا ما يشُدُ الحاجة إلى تعبيره من منامه. قال القرطبي عند تفسيره لقول الله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}(يوسف:5): "هذه الآية أصل في ألاّ تقص الرؤيا على غير شفيق، ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها". ولا يجوز الجزم بتفسير مُعيّن للرؤيا، ولا بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي ـ الرؤى الصالحة ـ مبشرات تبعث الأمل ويُتفاءل بها، وليست من الأدلة الشرعية، فلا يترتب ولا يُبني عليها أحكام شرعية، أو اعتقادات دينية، وتصورات بدعية، لأن الاعتقادات والعبادات أمر توقيفي مبني على الوحي ـ القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقد ضل بعض الناس في هذا الأمر فجعلوا الرؤى مصدرَ تشريع، وقد أنكر عليهم العلماء ذلك، فقال الشاطبي: "وربما قال بعضهم: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يُحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا".

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب في ادِّعَاء الرؤى، وتوعَّد بالعذاب الذي يكذب في حلمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَن تَحَلَّمَ بحُلْمٍ لم يره، كُلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل) رواه البخاري، وقال: (إنَّ من أَفْرَى الفِرَى (أعظم الكذبات) أن يُرِي عينَه ما لم تَرَ) رواه البخاري. (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَه) أي: مَن زعَم أنَّه رأَى في منامِه حُلُمًا لم يرَه، أو كَذَبَ في رُؤياه، كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بينَ شَعِيرتَينِ، ولنْ يَفْعَل، أي: عُذِّبَ حتى يَعقد بين حبَّتَيْن من الشَّعير، ولن يستطيع، وكأنَّه كما تَكلَّف وكَذَب فيما لم يَرَه، فإنه يُكلَّف بعملِ شيءٍ لا يُعْمَل فيُعذَّب.. قال ابن الجوزي: "والكاذب فِي الرُّؤْيَا يَدَّعِي أَن الله تعالى أرَاهُ مَا لم يره". وقال الشيخ ابن عثيمين: "وهذا وعيد يدل على أن التحلم بحلم لم يره الإنسان من كبائر الذنوب، وهذا يقع من بعض السفهاء، يتحدث ويقول: رأيت البارحة كذا وكذا.. وهذا حرام عليه، وأشد من ذلك أن يقول: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وقال لي كذا وكذا وما أشبه ذلك، فإنه أشد وأشد، لأنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما مَنْ تحلم بحلم رآه فهذا لا بأس به".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة