الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حَفْر بِئْر زَمْزَم

حَفْر بِئْر زَمْزَم

حَفْر بِئْر زَمْزَم

الأمور العظيمة يسبقها من الإشارات والأحداث ما يكون مؤذنا بقربها، وعلامة على وقوعها، وقد مهَّد الله تعالى لمولد وبعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأحداث عظيمة سُجِّلت في السيرة النبوية وفي تاريخ البشرية، ومنها: حفر عبد المطلب لبئر زمزم..
وماء زمزم كما هو ثابت ومعلوم خير ماء على وجه الأرض. عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيرُ ماء على وجْه الأرض ماء زَمْزم، فِيه طعامٌ من الطُّعْم، وشِفاءٌ من السُّقْم) رواه الطبراني. وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له عن ماء زمزم: (إنَّها لمباركة، هي طعام طُعمٍ، وشِفاءُ سُقمٍ) رواه الطبراني. (خيرُ ماءٍ على وَجهِ الأرضِ) أي: أفضل أنْواع الماء على وجه الأرض قاطِبةً (ماء زَمزَم) هي البِئرُ المَشهورة في المسجد الحرام، ولعلَّ هذا لما فيه مِن البَركة، (فيه طَعامٌ مِن الطُّعم) أي: تسُدُّ مَسَدَّ الطَّعام، وتُشبِع شاربَها وتُقوِّيه، كما يُشبِعُ الطَّعامُ ويُقوِّي، (وشِفاءٌ مِن السُّقْم) أي: وفيه شِفاءٌ للنَّاس مِن الأمراض إذا شُرِبَ بنيَّةٍ صالحة.. وفي الحديث: فضل ماءِ زَمزَم.
وكم مِنْ مسلم أصيب بداء وما أن أتى إلى بئر زمزم وشرب منه بنية الشفاء فكان الشفاء بإذن الله وفضله. قال ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": "ماء زمزم: سَيِّدُ الْمِيَاه وَأَشْرَفها وَأَجَلُّهَا قَدْرًا، وَأَحَبُّهَا إلى النفوس وأغلاها ثمنا وَأَنْفَسها عِنْدَ النَّاس، وَهُو هَزْمَة جِبْرِيل وَسُقْيَا اللَّه إِسْماعيل.. وقد جربْتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض، فبرِئتُ بإذن الله، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف شهر أو أكثر ولا يجد جوعاً". وفضل ماء زمزم ثابت في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفوائدها الصحية ثابتة علميا ومعروفة بالتجربة، وما مِن حاج أو معتمر إلا وقد شرب من هذا البئر، الذي لا ينقطع ماؤه أبداً مهما أُخِذ منه، ويفيض منه الماء منذ آلاف السنين دون أن يجف، فهو يتدفق بأمر الله تعالى وفضله..

قصة حفر بئر زمزم:
قال المباركفوري: "اندثر البئر ذات مرة في العصر الجاهلي ولم يُعرف له مكان، وقبل دخول الإسلام حلم (رأى في نومه) جد الرسول عبد المطلب بمن يدله على مكان البئر، ويطلب منه فتح البئر، وقد استيقظ وركض مهرولا إلى جانب الكعبة، وحفر في المكان الذي رآه في منامه حتى تحققت الرؤيا".
وقصة حفر بئر زمزم رواها ابن إسحاق في السيرة النبوية، والبيهقي في "دلائل النبوّة"، وابن كثير في "البداية والنهاية" من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الذي صححه الشيخ الألباني، يقول فيه: (بينا عبد المطلبِ نائمٌ في الحِجرِ أُتِيَ فقيل له: احفُرْ بَرَّةً (اسم من أسماء زمزم)، فقال: وما بَرَّةُ؟ ثم ذهب عنه حتى إذا كان الغدُ نام في مضجعِه ذلك فأُتِيَ فقيل له: احفر المضنونة (الغالية النفيسة)، قال: وما المضنونة؟ ثم ذهب عنه حتى إذا كان الغدُ فنام في مضجعِه ذلك فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ طَيْبَة (من أسماء زمزم)، فقال: وما طَيْبَة؟ ثم ذهب عنه، فلما كان الغدُ عاد لمضجعِه فنام فيه فأُتِيَ فقيل له: احفِرْ زمزم، فقال: وما زمزم؟ فقال: لا تُنزَف ولا تُذمُّ (لا يفرغ ماؤها ولا توجد قليلة الماء). ثم نعت (وصف) له موضعَها فقام يحفرُ حيثُ نُعِت. فقالت له قريشٌ: ما هذا يا عبدَ المطلب؟ فقال: أُمِرتُ بحَفر زمزم، فلما كشف عنه وبصُروا بالطَّيِّ قالوا: يا عبدَ المطلب إنَّ لنا حقًّا فيها معك، إنها لَبئرُ أبينا إسماعيل، فقال: ما هي لكم، لقد خُصِصتُ بها دونَكم. قالوا: أتحاكمُنا؟ قال: نعم. قالوا: بيننا وبينك كاهنةُ بني سعدِ بنِ هذيم، وكانت بأطراف الشام، فركب عبد المطلب في نفرٍ من بني أُميَّةَ، وركب من كلِّ بطنٍ من أفناء قريشٍ نفرٌ، وكانت الأرض إذ ذاك مفاوزَ فيما بين الحجازِ والشام، حتى إذا كانوا بمفازةٍ من تلك البلادِ فَنِيَ ماءُ عبدِ المطلب وأصحابه حتى أيقَنوا بالهلكة، ثم استَقوا القومَ فقالوا: ما نستطيع أن نسقِيَكم، وإنا نخاف مثلَ الذي أصابكم. فقال عبدُ المطلِب لأصحابِه: ماذا تَرَوْن؟ قالوا: ما رَأْيُنا إلا تَبَعٌ لرأْيِك. قال: فإني أرى أن يحفِرَ كلُّ رجلٍ منكم حفرتَه، فكلما مات رجلٌ منكم دفعَه أصحابُه في حفرتِه حتى يكون آخرُكم يدفعُه صاحبُه، فضَيْعَةُ رجلٍ أهونُ من ضَيْعَةِ جميعِكم، ففعلوا ثم قال: واللهِ إنَّ إلقاءَنا بأيدينا لِلموت، ولا نضرب في الأرض ونبتغي، لعل اللهَ أن يسقِيَنا لعجز. فقال لأصحابِه: ارْتَحِلوا. فارتحَلوا وارتحل. فلما جلس على ناقتِه، فانبعثَتْ به انفجَرتْ عينٌ تحت خُفِّها بماءٍ عذبٍ فأناخ وأناخ أصحابُه، فشربوا واستقَوا وأسقَوا، ثم دعوا أصحابَهم: هلُمُّوا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤوا واستَقَوا وأَسقَوا ثم قالوا: يا عبدَ المطلب! قد واللهِ قُضِيَ لك، إنَّ الذي سقاك الماءَ بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، انطلِقْ فهي لك، فما نحن بمخاصِميك). قال ابن الأثير: "وفي حديث زمزم: أتاه آتٍ، فقال: احفر برة. سماها برة لكثرة منافعها وسعة مائها".

ولبئر زمزم أسماء عديدة، فقد نقل ابن منظور في "لسان العرب" عن ابن بري اثني عشر اسماً لزمزم، وقد ذكر العلماء أسبابا كثيرة لتسميتها بهذه الأسماء، وعللوا كل تسمية بعلة تناسب ما رجحوه، وإنما حصل هذا الخلاف لعدم ورود نص من الشرع بذلك، وقد لخص هذه الأسماء الجمل في "فتوحات الوهاب بتوضيح شَرْح منهج الطلاب" بقوله: "وأصلها من ضرب جبريل الأرض بجناحه حين عطشت هاجر وولدها إسماعيل، لما وضعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هناك بأمر الله تعالى، ولما فاض منها الماء على وجه الأرض قالت له هاجر: زم زم، أي اجتمع يا مبارك، فاجتمع فسُميت زمزم، ويقال لها: زمازم، وقيل: لأن الماء حين خرج منها ساح يمينا وشمالا فزم أي منع بجمع التراب حوله، وروي: لولا أمكم هاجر حوطت عليها لملأت أودية مكة، وقيل: لأنه سمع منها حينئذ صوتاً يشبه صوت الفرس عند شربها المسمى بذلك، ولها أسماء كثيرة: زمزم، وهزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل، وبركة، ومصونة، وعونة، وبشرى، وصاحبة، وبرة، وعصمة، وسالمة، وميمونة، ومعذبة، وكافية، وطاهرة، وحرمية، ومرورية، ومؤنسة، وطيبة، وشباعة العيال، وطعام طعم، وشفاء سقم".

بئر زمزم أشهر بئر على وجه الأرض لمكانته عند المسلمين عامة، والمؤدين لشعائر الحج والعمرة خاصة، فهي تلك البئر المباركة التي فجرها جبريل بعقبه لإسماعيل وأمه هاجر، حيث تركهما نبي الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر من الله عز وجل في ذلك الوادي القفْر الذي لا زرع فيه ولا ماء، وذلك حين نفد ما معهما من زاد وماء، وجهدت هاجر وأتعبها البحث ساعية بين الصفا والمروة ناظرة في الأفق البعيد علها تجد مغيثًا يغيثها، حتى كان مشيها بينهما سبع مرات، ثم رجعت إلى ابنها فسمعت صوتًا، فقالت: أسمع صوتك فأغثني إن كان عندك خير، فضرب جبريل الأرض، فظهر الماء، فحاطته أم إسماعيل برمل ترده خشية أن يفوتها، قبل أن تأتي بالوعاء، فشربت ودرت على ابنها. وقد روى البخاري هذه الواقعة مطولة في صحيحه.. قال النووي في "المجموع شرح المهذب": "قيل سميت زمزم لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم وزمزوم وزمازم، إذ كان كثيراً، وقيل: لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها إياه، وقيل: لزمزمة جبريل صلى الله عليه وسلم وكلامه".

لقد كان حفر بئر زمزم على يد عبد المطّلب جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأحداث الهامة والعظيمة التي سبقت مولد وبعثة نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة