الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سُبحانَ ذي الجبَروتِ والمَلَكوتِ والكِبرياء والعَظَمة

سُبحانَ ذي الجبَروتِ والمَلَكوتِ والكِبرياء والعَظَمة

سُبحانَ ذي الجبَروتِ والمَلَكوتِ والكِبرياء والعَظَمة

أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها، يجب الوقوف فيها على ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة. وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه ـ من أسماء وصفات ـ في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأعراف:180)، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). قال القرطبي: "والذي يُعْتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحُسْنى أسمائه وعَليِّ صفاته، لا يشبه شيئا مِنْ مخلوقاته ولا يُشبه به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}". وقال السعدي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حُسْنَى، وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوْجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارِك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المُشَبِّهَة في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المُعَطِّلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}". وقال ابن بَطَّة العُكْبَريّ الحنبلي في "الإبانة الكبرى": "من علامات المؤمنين أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مما نقلته العلماء، ورواه الثقات مِن أهل النقل، الذين هم الحجة فيما رووه من الحلال والحرام والسنن والآثار، ولا يُقال فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف؟ ولا لم؟ بل يتبعون ولا يبتدعون، ويسلمون، ولا يعارضون، ويتيقنون ولا يشكون ولا يرتابون". وقال أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني: "ويعتقدون ـ أهل السنة والجماعة ـ أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بصفاته التي سمَّى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم". وقال ابن عبد البر: "أهل السنة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها". وقال ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية": "ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات". وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "قد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانًا، ولكن ـ بحمد الله ـ لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، مِن أولهم إلى آخرهم.. لم يقل أحد منهم: يجب صَرْفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تَلَقَّوْها بالقَبُول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم".

و"الجَبَرُوت" صفةٌ من صفات الله تعالى، و"الجبار" اسم من أسمائه سبحانه. قال ابنُ قُتَيبة: "جَبَروتُه: تجبُّرُه، أي: تعَظُّمُه". وقال الزَّجَّاجيّ: "الجَبَّار والجَبَريَّة: العَظَمة.. فاللهُ عَزَّ وجَلَّ الجَبَّار ذو الجَبَريَّة والكبرياء والعظمة". وقال ابن الأنباريّ: "الجَبَّارُ في كلام العرب: ذو الجَبَريَّة، وهو القَهَّار". وقال الخَطَّابيّ في "شأن الدعاء": "ويقال: هو الذي جَبَرَ مفاقِرَ الخَلْقِ وكفاهم أسبابَ المعاشِ والرِّزق، ويُقال: بل الجَبَّار: العالي فوقَ خَلْقِه، مِن قَولِهم: تَجَّبَر النَّباتُ: إذا علا". وقال البَيهقيُّ في "الاعتقاد": "الجَبَّار: هو الذي لا تناله الأيدي، ولا يجري في مُلكِه غير ما أراد، وهو من الصِفات التي يَستحِقُّها بذاتِه، وقيل: هو الذي جَبَر الخَلْقَ على ما أراد، وقيل: هو الذي جَبَرَ مفاقِرَ الخَلْقِ، وهو على هذا المعنى من صِفاتِ فِعْلِه". وقال ابنُ سِيدَهْ في "المخصص": "الجَبَّار: الذي جَبَرَ الخَلْقَ على ما أراد مِن أمْرِه، وقيل: الجَبَّار: العَظيمُ الشَّأنِ في المُلْكِ والسُّلطان، ولا يَستحِقُّ أن يُوصَفَ به على هذا الإطلاقِ إلَّا اللهُ تعالى، فإنْ وُصِف به العبدُ فإنَّما هو على وَضْعِ نَفْسِه في غيرِ مَوضِعِها، وهو ذَمٌّ على هذا المعنى".
الجبروت" صفةٌ ثابتة لله عَزَّ وجَلَّ مأخوذة من اسم الله تعالى "الجبار"، وثابتة كذلك في السنة النبوية.
1 ـ قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}(الحشر:23). قال ابن كثير: "{الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} أي: الذي لا تليق الجبْرية إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته.. وقال قتادة: الجبَّار: الذي جبر خلقه على ما يشاء. وقال ابن جرير: الجبار: المُصلح أمور خَلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم". وقال ابن عباس في قوله تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} هو العظيم، وجبروت الله عظمته". وقال الشوكاني في "فتح القدير": "جبروت الله عظمته". وقال السعدي: "(الجبار) هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه".
2 ـ عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (قمتُ (مُصليا) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فلما ركع، مكث قدْر سورة البقرة يقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة) رواه أبو داود. قال الطيبي: "(الجبروت) مِنَ الجَبْر والقَهْر، وفي الحديث: (ثم يكون ملك وجبروت) أي عتو وقهر". وقال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ": "(سبحان ذي الجبروت والملكوت) هما مبالغة الجبر، وهو القهر، والغلبة. والملك، وهو التصرف، أي صاحب القهر والتصرف البالغ كل منهما غايته.. والحديث يدل على مشروعية هذا الذِكْر في الركوع والسجود". وقال ابن رسلان المقدسي في "شرح سنن أبي داود": "(سبحان ذي الجبروت) منْ جَبَرَ الفقير".
3 ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بين السجدتين فيقول: (اللهمَّ اغفِرْ لي، وارحَمْنِي، واجْبُرْني، واهْدِني، وارْزُقُني) رواه الترمذي. قال ابن الأثير: "(واجبرني) أي أغنني، مِنْ جبر الله مصيبته: أي رد عليه ما ذهب منه وعوَّضه، وأصله مِنْ جَبْر الكَسْر". وقال القاري: "(واجبرني) أي: اجْبُر كَسْري، وأزِل فقري". وقال المناوي: "(واجبرني) أي سُدَّ مفاقري. قال في الصحاح: الجَبْر أن تغني الرجل مِنْ فقر، أو تصلح عظمه مِنْ كَسْر، وجَبَرَ الله فلانا سدَّ مفاقره، وجبر مصيبته، ورد عليه ما ذهب منه أو عوَّضه".

وقال ابن القيم في قصيدته "النونية":
وكَذَلِكَ الجَبَّارُ مِنْ أَوْصَافِهِ وَالجَبْرُ فِي أَوْصَافِهِ نوعانِ
جَبْرُ الضَّعيفِ وَكُلِّ قَلبٍ قَدْ غَدَا ذَا كَسْرةٍ فَالجَبرُ مِنهُ دَانِ
وَالثَّانِ جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذِي لَا يَنبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنسَانِ
وَلَهُ مُسمًّى ثَالِثٌ وَهُوَ العُلُوُّ فَلَيسَ يَدنُوُ مِنْهُ مِنْ إِنسَانِ
قال الشيخ الهرَّاس في شرحه لهذه الأبيات: "وقد ذكر المؤلف هنا لاسمه (الجبار) ثلاثة معان، كلها داخلة فيه، بحيث يصح إرادتها منه: أحدها: أنه الذي يَجْبر ضعف الضعفاء مِن عباده، ويجبر كسر القلوب المنكسرة مِن أجله، الخاضعة لعظمته وجلاله، فكم جَبَرَ سبحانه مِن كسير، وأغنى مِنْ فقير، وأعزَّ من ذليل، وأزال مِنْ شدة، ويسَّر مِنْ عسير؟ وكمْ جَبَرَ مِنْ مُصاب، فوفقه للثبات والصبر، وأعاضه مِن مُصابه أعظم الأجر؟ فحقيقة هذا الجَبْر هو إصلاح حال العبد بتخليصه من شدته ودفع المكاره عنه. المعنى الثاني: أنه القهار، دانَ كلُّ شيء لعظمته، وخضع كل مخلوق لجبروته وعزته، فهو يُجبر عباده على ما أراد مما اقتضته حكمته ومشيئته، فلا يستطيعون الفكاك منه. والثالث: أنه العلي بذاته فوق جميع خَلْقه". وقال السَّعْديّ: "الجَبَّارُ الذي قَهَر جميعَ العباد، وأذعَنَ له سائِرُ الخَلْق، الذي يَجبُرُ الكسيرَ، ويُغني الفَقير".

فائدة:
الجبروت بمعنى: العظمة والكبرياء والعز والعلو، صفة كمال لله عز وجل وحده {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11). والجبروت والتجبر في حق الإنسان صفة نقص وذم، قال الزجاج: "الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يُجْبِر الناس على ما يريد، فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه، فإنه يجبر غيره على ما يريده، وأجبره أي: أكرهه". وقال ابن القيم في "شفاء العليل": "قال (الزجاج) الجبَّار من الناس العاتي الذي يُجْبِرَ الناس على ما يريد، وأما "الجبار" من أسماء الرب تعالى فقد فسره بأنه الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير، والرب سبحانه كذلك، ولكن ليس هذا معنى اسمه الجبار ولهذا قرنه باسمه "المتكبر" وإنما هو الجبروت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، فالجبار اسم من أسماء التعظيم، كالمتكبر، والملك، والعظيم، والقهار، قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} هو العظيم، وجبروت الله عظمته".
وقد توَعَّد الله عز وجل الجبابرة مِن الناس بالعذاب الشديد، قال الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}(إبراهيم:17:15)، قال ابن كثير: "{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي: مُتَجَبِّرٌ في نفسه مُعانِدٌ للحق، كما قال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}(ق:26:24). وفي الحديث: (إنه يؤْتَى بجهنم يوم القيامة، فتنادي الخلائق فتقول: إني وُكلت بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيد)". وقال السعدي: "{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي: خسر في الدنيا والآخرة مَنْ تجبَّر على الله وعلى الحق وعلى عباد الله، واستكبر في الأرض، وعاند الرسل وشاقهم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تَحَاجَّت الجَنَّةُ وَالنَّار، فقالت النَّارُ: أُوثِرتُ (اختصصت) بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِين) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأخذُ الجبَّارُ سماواتِه وأرضَه بيدِه وقبضَ بيدِه فجعلَ يقبضُها ويبسطُها ثمَّ يقول: أنا الجبَّارُ أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتَكبِّرون؟) رواه البخاري. قال المناوي: "(الجبروت) من التجبر، وإنما يطلق ذلك في صفة الإنسان على مَنْ يَجْبُر نقيصته بادِّعاء منزلة مِن التعالي لا يستحقها".

"الجبار" اسم من أسماء الله عز وجل، و"الجبروت" صفة من صفاته سبحانه، ولا شك أن ما وُصف به الخالق سبحانه مِن صفات فإنه يخالف تماما ما وُصِف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11).. ومِن معاني هذه الصفة "الجبروت": أن الله عز وجل متصف بالتعالي والقهر، ونفاذ مشيئته في مُلكه، فلا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، ولا يخرج أحد عن سلطانه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه متصف بكثرة جَبْره لحوائج الخلائق.. وإذا علم العبد أن "الجبار" اسم من أسماء الله عز وجل، و"الجبروت" صفة من صفاته سبحانه، امتلأ قلبه ثقة ويقينا، وأمنا وأمانا، لأن الله تعالى "الجبار" الذي من صفاته "الجبروت"، يَجْبر الضعيف، ويُغني الفقير، ويَجْبر الكسير، وينصر المظلوم.. وصفة الجبروت صفة مستحقة لله تعالى، وهي صفة كمال له سبحانه، ويُشرع للمسلم كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في ركوعه وسجوده: (سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ والْكِبْرِيَاءِ والْعَظَمَة) رواه أبو داود.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة