الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فاء التفريع في القرآن الكريم

فاء التفريع في القرآن الكريم

فاء التفريع في القرآن الكريم
يذكر أهل اللغة أن لحرف (الفاء) أنواعاً يدلُّ عليها سياق الكلام؛ فهناك: (الفاء الاستئنافية) وهي التي تفيد مع ما بعدها كلاماً جديدًا لا يتعلق بما قبله من جهة الإعراب، و(الفاء العاطفة) وهي التي تعطف كلمة على كلمة أو جملة على جملة، و(الفاء السببية) وهي التي يكون ما قبلها سبباً فيما بعدها، و(الفاء التعليلية) وهي التي يكون ما بعدها علة لما قبلها، و(الفاء الواقعة في جواب الشرط) وهي الرابطة بين جملة الشرط وجوابه، و(الفاء الفصيحة)، وهي التي تُفصح عن شيء محذوف وتبيَّنه، ثم أخيراً لا آخر (الفاء التفريعية)، والحديث هنا عن هذه (الفاء) الأخيرة.
عرَّف الجرجاني (فاء التفريع) بأنها الفاء التي تجعل شيئاً عقيب شيء؛ لاحتياج اللاحق إلى السابق، وهو من خصائص الفاء، حيث يقال: فاء التفريع. والتفريع عند البلاغيين هو: إثبات حكم لشيء بينه وبين أمر آخر نسبة وتعلُّقٌ بعد إثبات ذلك الحكم لمنسوب آخر لذلك الأمر، فلا بد إذن من متعلَّقين، أي: شيئين منسوبين لأمر واحد، كغلام محمد وأبيه بالنسبة إلى محمد، ولا بد من حكم واحد يثبت لأحد المتعلَّقين، وهما الغلام والأب، بعد إثباته للآخر، كأن يُقال: غلام محمد فرِح ففرِح أبوه، فالفرح حكم أثبت لمتعلقي محمد، وهما: غلامه وأبوه، وإثباته للثاني على وجه يُشعر بتفريعه عن الأول.
ولربما عُرِّفت الفاء التفريعية بأنها التي يكون ما بعدها فرعاً عنها، أو تفسيراً لما قبلها، نحو قوله تعالى: {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} (يس:72)، وقوله عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله} (الشورى:40).
والفاء التفريعية -بحسب الزمخشري- هي التي تكون جواباً لشرط مقدَّر مع الأداة، كما في قوله سبحانه: {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} (البقرة:258) التقدير: إن أردت البرهان، فإنَّ الله يأتي بالشمس...
وقال ابن عاشور: "فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها". وعلى الجملة فـ (فاء التفريع) هي التي تأتي لتفريع الأمر وتفصيله.
وهذه (الفاء) ذكرها بعض المفسرين، وخاصة المتأخرين منهم، كـ ابن عاشور، والعثيمين، والزحيلي.
ومن الأمثلة القرآنية التي ذكرها المفسرون على فاء التفريع الآتي:
- قوله عز وجل: {فاختلف الأحزاب من بينهم} (مريم:37) قالوا: (الفاء) في قوله: {فاختلف} هي فاء التفريع، التي تفيد العلية والسببية، فكأن دعوتهم إلى عبادة الله، واعتبار المسيح عبداً من عباده، كان داعياً لهم إلى أخذ هذه السبل الضالة المنحرفة!
- قوله سبحانه: {فليعبدوا رب هذا البيت} (قريش:3) قال الشيخ العثيمين: (الفاء) في قوله: {فليعبدوا} إما أن تكون فاء السببية، أي: فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت، أو أن تكون فاء التفريع، أي: فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله.
- قوله تبارك وتعالى: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} (محمد:27) (الفاء) في قوله: {فكيف} فاء التفريع؛ لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
- قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} (محمد:30) أي بعلامتهم، و(الفاء) في قوله: {فلعرفتهم} فاء التفريع، فمعرفتهم بسيماهم ناشئة ومترتبة على رؤيتهم.
- قوله سبحانه: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء} (الأنعام:99) (الفاء) في قوله: {فأخرجنا} فاء التفريع، أي ترتب على إنزال الماء خروج نبات الأرض وخيراتها.
- قوله عز وجل: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} (الأنعام:149) (الفاء) في قوله: {فلو شاء} فاء التفريع على ظهور حجة الله تعالى عليهم، تفرع على بطلان استدلالهم أن الله لو شاء لهداهم، أي: لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يغير عقولهم فتأتيَ على خلاف ما هُيئت له، لكان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصة بهم؛ إذ لا يعجزه شيء، ولكن حكمته قضت أن لا يعمم عنايته، بل يختص بها بعض خاصته، وأن لا يعدل عن سنته في الهداية بوضع العقول وتنبيهها إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة والدعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة.
- قوله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} (الأعراف:190) قال ابن عاشور: موقع فاء التفريع في قوله: {فتعالى الله} موقع بديع؛ لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلق العجيب، والمنن العظيمة، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك، وليس له شريك بحق، وهو إنشاء تنزيه غير مقصود به مخاطب".
- قوله سبحانه: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} (الحجر:36) (الفاء) في قوله: {فأنظرني} فاء التفريع؛ فرَّع السؤال عن الإخراج، ووسَّط النداء بين ذلك.
- قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (النحل: 98) الفاء في قوله: {فإذا} فاء التفريع؛ قال الطيبي: "قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} متصل بالفاء بما سبق من قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل:89) وذلك لأنه تعالى لما منَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال كتاب جامع لصفات الكمال، وأنه تبيان لكل شيء، ونبَّه على أنه تبيان لكل شيء بالكلمة الجامعة، وهي قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (النحل:90) وعطف عليه {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} (النحل:91)، وأكده ذلك التأكيد، قال بعد ذلك: {فإذا قرأت القرآن} أي: إذا شرعت في قراءة هذا الكتاب الشريف الجامع الذي نبهت على بعض ما اشتمل عليه، ونازعك فيه الشيطان بهمزه ونفثه، فاستعذ بالله منه، والمقصود إرشاد الأمة"، قال ابن عاشور: "والمقصود بالتفريع الشروع في التنويه بالقرآن".
- قوله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} (العنكبوت:56) (الفاء) في قوله: {فإياي} فاء التفريع، أي: إذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض، فارتحلوا منها إلى أرض أخرى، حيث كانت العبادة لله وحده، فأماكن العبادة ومواضعها واسعة، والمعبود واحد.
- قوله سبحانه: {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون} (الروم:34) (الفاء) في قوله: {فسوف تعلمون} فاء التفريع، تفريع للإنذار على التوبيخ، قال ابن عاشور: "وهو رشيق".
جدير بالذكر أن بعض أهل العلم -ومنهم الزمخشري- يرى أن فاء التفريع هي الفاء الفصيحة نفسها؛ لأنها أفصحت، أي: بيَّنت، وكشفت عن المحذوف، ودلَّت عليه وعلى ما نشأ عنه؛ ولأنها -أحياناً- تفصح عن جواب شرط مقدَّر، كما في قوله عز وجل: {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا} (الأعراف:160)؛ فدلَّت (الفاء) على محذوف، أي: إن كان موسى قد أطاع الأمر وضرب الحجر، فماذا كان بعد ذلك؟ فالجواب: انبجست منه اثنتا عشرة عيناً.
والظاهر من كلام ابن عاشور أنه يفرق بينهما؛ فعند تفسيره لقوله سبحانه: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (يونس:31) قال: "{فقل} (الفاء) فاء الفصيحة، أي: إن قالوا ذلك {فقل أفلا تتقون} و(الفاء) في قوله: {أفلا تتقون} فاء التفريع، أي: يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم".
وسواء كان بين الفاءين فرق أو لم يكن، فإن الغرض مما تقدم بيان المراد من الفاء التفريعية في كلام من ذكرها من المفسرين. والله الهادي إلى سواء السبيل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة