الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفتوى بغير علم.. جريمة

الفتوى بغير علم.. جريمة

الفتوى بغير علم.. جريمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن من أعظم الأعمال دلالةَ الخلق على خالقهم، وبيانَ أحكامه لهم، وأوامره ونواهيه، وتعريفَهم بما يحل ويحرم، وما يجوز وما يمتنع، وبيانَ حكمه في أعمالهم صغيرها وكبيرها.
وهذا ما يقوم به المفتون، فإن الإفتاء - كما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "هُوَ الإْخْبَارُ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ مَعَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ أَوْ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ" (ج32، ص25).

فالمفتون في الحقيقة موقعون عن رب العالمين، وهو منصبٌ لا يُنكَر فضله، ولا يُجهَل قدرُه، وهو من أعلى المراتب السنيَّات، والأعمال الزاكيات، قَالَ النووي - رَحِمَهُ اللهُ: "الْإِفْتَاءُ عَظِيم الْخَطَرِ، كَبِيرُ الْموقع، كثيرُ الْفضل؛ لِأَن الْمُفْتِي وَارِثُ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم، وقائمٌ بِفَرْض الْكِفَايَة، لكنه مُعَرَّضٌ للخطأ، وَلِهَذَا قَالُوا: الْمُفْتِي مُوَقِّعُ عَن الله تَعَالَى" (آداب الفتوى للنووي:13).

ومن ثَّم لم تصلح هذه المرتبة إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يبلِّغ، صادقًا فيه.. ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلًا في أقواله وأفعاله، متشابه السرِّ والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله..

وحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّته، وأن يتأهَّبَ له أُهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرجٌ من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وليحذر تمام الحذر من القول على الله بغير علم.. كما ينبغي ألا يتكلم في هذا إلا من كان متأهلا له قادرا عليه مستوفيا شروطه.

الترهيب من القول على الله بغير علم
وينبغي على كل عاقل أن يحذر القولَ على الله تعالى بغير علم؛ فإن القول على الله تعالى بغير علم من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، وقد جعله الله سبحانه وتعالى عديلَ الشرك، وتوعد عليه بالعذاب الأليم، فقال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:116ـ 117}. وقال جل قائلا عليما: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:144].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد حرَّم الله سبحانه القولَ عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال جل في علاه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف/33].
فرتب المحرمات أربعَ مراتب: وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منها وهو الإثم والظلم، ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشركُ به سبحانه، ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القولُ عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القولَ عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه".

وقال رحمه الله تعالى: "ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل:116-117].
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال.. وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه" [انتهى من إعلام الموقعين:1/38].

من أكبر الكبائر
وقد أفاض العلماء في الكلام على خطورة القول على الله بغير علم، وفي النكير على من يتجرأ عليه، وأنه أشد المحرمات تحريما، وأعظمها إثما، وهو مما اتفقت على تحريمه جميع الشرائع والأديان.

وإنما كان القول على الله بغير علم بهذه الخطورة لأنه يتضمن عددا من الكبائر والعظائم:
الكبيرة الأولى:
الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثما، وهو أصلُ الشرك والكفر، وعليه أُسِّسَت البدعُ والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسُها القولُ على الله بلا علم.

الكبيرة الثانية:
الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه داخل في الكذب على الله - كما هو معلوم - يقول ابن حجر في الفتح: "تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه" اهـ.
وقد جاء في الحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار).

الكبيرة الثالثة:
إغواءُ الناس وإضلالُهم.. وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
فالمفتي بغير علم ضلَّ عن الحق، وأضل غيره ممن اتبعه في فتواه.
جاء في " الموسوعة الفقهية:32/24": "الإفتاء بغير علم حرامٌ، لأنه يتضمنُ الكذبَ على الله تعالى ورسولِه، ويتضمن إضلالَ الناس، وهو من الكبائر، لقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، فقرنه بالفواحش والبغي والشرك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وجاء فيها أيضا: "ثم إنْ فَعَل المستفتي - بناءً على الفتوى - أمراً محرماً أو أَدَّى العبادة المفروضة على وجه فاسد، حمَل المفتي بغير علم إثمَه" انتهى.

فمن أَفتَى أحدا بغير علم كان إثمُ كل ما يترتب على فتواه من مخالفة للشرع ومباينة للهدى وزره عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أُفتيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه) [رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة وحسنه الألباني في صحيح الجامع].
فعلى المسلم أن يستشعر عظم هذا المنصب، ولا يخوض في هذا الأمر إلا بعلم، وإلاَّ تقحم النار والعياذ بالله.

تعظيم السلف لأمر الفتيا
كان السلفُ رضوان الله عليهم - لشدة علمهم وفقههم ومعرفتهم - يدركون قدر الفتيا وثقل أمرها وخطورة عاقبتها؛ ولهذا كانوا يهابون هذا الموقف ويَحْذَرُونه ويُحَذِّرون منه..
قال ابن المنكدر: "العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم".
وكان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه ثم يجيب".
وسُئلَ عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: "لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت! يكون لهم المهنأ وعلي الوزر".

وقد ثبت عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رحمه الله أنه قَالَ: "‌أَدْرَكْتُ ‌عِشْرِينَ ‌وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرَاهُ قَالَ: فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا مُفْتٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا".
وقال أيضا: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُسأَل أحدُهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول".
وهذا يدل على أن الأول كان أهلا لها وأجدرَ بها، وإنما ردها لغيره لعل أخاه أن يكفيه مؤنتها ويكفيه أمرها.. فلما رجعت إليه لم يجد بُدًّا منها.

وهذا ما ينبغي على كل من يخاف الله تعالى، وهو ما قرره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين قال: "وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرعَ في الفتوى، ويودُّ كلُّ واحد منهم أن يكفيه إياها غيرُه، فإذا رأى بها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى".

عدم التسرع

كما ينبغي على طالب العلم وكل من يستفتيه الناس ألا يسارع لفتواهم حتى لا يجد بدا من ذلك، وحتى يكون أهلا له، فيستعين بالله ولا يتكل على نفسه، ولا يغرنه علمه فإن من وُكِل إلى نفسه خُذِل، ومن توكل على الله كفاه ووفقه
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "قلَّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهاً لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب".

ومن كلام السلف رضوان الله عليهم فيمن تقحم الفتوى أنه نوع من قلة العلم، وهو ضرب من الحماقة والجنون:
فذكر الإمام النووي في مقدمة المجموع، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَسَحْنُونٍ: "أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا".
قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نُسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بُدّا، أو أحمق متكلف".
فكان ابن سيرين رحمه الله يقول: "فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث".
وفي المجموع وغيره أيضا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "مَنْ أَفْتَى عَنْ كل ما يسئل فَهُوَ مَجْنُونٌ".

نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

اقتضاء العلم العمل

أفضل الفضائل تحصيل العلم، وطلب الزيادة منه أمر رباني {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]، وقد ميز الله أهل العلم...المزيد