الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شعبان.. اتباع لا ابتداع

شعبان.. اتباع لا ابتداع

شعبان.. اتباع لا ابتداع

أهل علينا شهر شعبان حاملا إلينا نسائم رمضان، ومنبها لنا بالاستعداد لأفضل شهور العام، ومذكرا بما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر أمته به في هذا الشهر.
لقد كان شعبان بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه شهرا ليس كغيره من الشهور، فقد اختصه صلوات الله وسلامه عليه بمزيد اهتمام وعبادة، خصوصا عبادة الصيام – فقد كان يكثر من الصيام فيه جدا حتى يظن الظان أنه كان يصومه كله.. والحق الذي عليه أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر تاما مكملا إلا رمضان، وإنما كان يكثر من الصوم في شعبان فلا يفطر منه إلا قليلا. كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استكمل صيامَ شهرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ منه صيامًا في شعبانَ].. زاد مسلم في روايته : [كان يصومُ شعبانَ كلَّه، كان يصومُ شعبانَ إلا قليلًا)[متفق عليه].

وكان عليه أزكى الصلوات وأتم التسليمات ينبه الصحابة ومن بعدهم من المسلمين للاهتمام بشعبان صياما وعبادة بأنواعها، ويحذرهم من الغفلة فيه .. فلما سأله أسامة بن زيد عن كثرة الصيام في شعبان قال: (ذلك شهْرٌ يغْفُل الناس عنْه بيْن رجب ورمضان، وهو شهْرٌ تُرْفَع فيه الأعْمال إلى ربِّ العالمين، فأحبّ أنْ يرْفعَ عملي وأنا صائمٌ)أخرجه أحمد والنسائي.

ولا شك أن الذكر والعبادة وقت الغفلة تكون بأي صورة من صور العبادة بعمومها، فبجانب الصيام هناك صلوات السنن والتطوع، وقراءة القرآن، وذكر الرحمن كالتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ما يدخل في مفهوم العبادة بمعناها الواسع وهو: "كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".

ولاشك أن ما يحبه الله ويرضاه من العبادات هو ما التزم فيه فاعله بأمرين: إخلاص لله تعالى، واتباع لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل ما لم يكن على هديه ومن سنته ومأذونا فيه عموما، فهو من البدع المحدثة وهي مردودة على صاحبها كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)متفق عليه ، وقال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)رواه مسلم.

وقد وسع الشرع على من أراد العبادة والاجتهاد فيها، وشرع لهم من الفرائض والواجبات والنوافل والمستحبات ما فيه غنية عن المبتدع المحدث.. غير أن الشيطان لا يدع الناس على الهدى والاتباع والقصد، حتى يعمل على إخراجهم إلى المخالفة والابتداع والغلو.. فكان أن سوّل للبعض اختراع أمور ظنوها قربات وعبادات – بحسن قصد أو بجهل أو غير ذلك – غير أنها في ميزان الشرع مما استحدث على غير سنة وغير سبيل المؤمنين.
ووضع بعضهم صلوات ودعوات ما سمع بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ممن كان معه من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا عن أكابر علماء التابعين.. ووضع بعض الناس أحاديث مكذوبة، نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه ما نطق بها فاه، ولا تحركت بها شفتاه.. زاعمين تحبيب الناس في العبادة في شعبان وحثهم عليها، ولكن هذا كله يبقى كذبا على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقائله على خطر عظيم ووعيد كبير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)[متفق عليه].

عبادات مبتدعة، وأحاديث مخترعة
والبدع التي أحدثها الناس في شعبان متنوعة لكن يجمعها أمران: عبادات مبتدعة، وأحاديث مخترعة:
أولها: بدعة الصلاة الألفية
وهي صلاة مخترعة تصلى ليلة النصف من شعبان، سميت بالألفية لقراءة سورة الإخلاص فيها ألف مرة، لأنها مائة ركعة، يقرأ في كل ركعة سورة الإخلاص عشر مرات.
ووضعوا في ذلك حديثا عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "‌يا ‌علي، ‌من ‌صلى ‌مائة ركعة في ليلة النصف، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وقل هو اللَّه أحد عشر مرات". ... إلى أن قال: "ما من عبد يصلي هذِه الصلوات إلا قضى اللَّه عز وجل له كل حاجة طلبها تلك الليلة....." إلى آخر الحديث، وهو طويل وفيه غرائب.

وهذا الحديث اتفق العلماء على أنه موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الصلاة باطلة:
قال الإمام أحمد: هذا باطل موضوع. وقال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات 2/129: "هَذَا حَدِيث لَا نشك أَنَّهُ مَوْضُوع"، وقال العلامة الشوكاني في "الفوائد المجموعة": هو موضوع.
قال الإمام النووي رحمه الله: "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي ثنتي عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان ‌بدعتان، ‌منكرتان، ‌قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب " قوت القلوب " و " إحياء علوم الدين " ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل".

ثانيا: صلاة ست ركعات ليلة النصف من شعبان
بنية دفع البلاء، وطول العمر، قال الإمام الغزالي: "وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين من السادة الصوفية التي لم أرَ لها ولا لدعائها مستنداً صحيحاً من السنة إلاَّ أنه من عمل المبتدعة" [انظر السنن والمبتدعات:145].
وقد اخترع الناس صلوات ذات هيئات مختلفة كلها لا تشرع وهي بدع منكرة باطلة كما قال الأئمة الكرام.

ثالثا: دعاء ليلة النصف من شعبان
أوله "اللهم يا ذا المن ولا يمن عليه...."، وهو دعاء طويل ألفه بعض المشايخ.
قال القشيري في كتابه السنن والمبتدعات: ‌‌فصل فِي بِدعَة الدُّعَاء بِيَاذَا الْمَنّ (‌اللَّهُمَّ ‌يَا ‌ذَا ‌الْمَنّ ‌وَلَا ‌يمن ‌عَلَيْهِ يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام...) الخ. قد أَشَارَ فِيمَا تقدم هُنَا شَارِح الْإِحْيَاء إِلَى أَنه دُعَاء لَا أصل لَهُ وَلَا مُسْتَند، وَكَذَا قَالَ صَاحب أَسْنَى المطالب: هُوَ من تَرْتِيب بعض أهل الصّلاح من عِنْد نَفسه. ص: 145
وقال صاحب "الإبداع في مضار الابتداع": وربما شرطوا لقبول هذا الدعاء قراءة سورة يس وصلاة ركعتين قبله" ص:290.
ومعلوم أن هذا كله لا أصل له ولا دليل عليه وإنما من البدع المحدثة.

رابعا: تخصيص ليلها بقيام، أو نهارها بصيام
لحديث: "إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، ‌فَقُومُوا ‌لَيْلَهَا، ‌وَصُومُوا ‌نَهَارَهَا.... إلخ"..
وهذا حديث لا يصح بل هو تالف: قال عنه الشيخ الأرناؤوط في تخريج سنن ابن ماجة: "إسناده تالف بمرة". وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية": "هَذَا حَدِيثٌ لا يَصِحُّ"[2/71]، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة في تخريج سنن ابن ماجة: "فِيهِ ابْن أبي سُبْرَة ... قَالَ أَحْمد وَابْن معِين: يضع الحَدِيث".
وقال ابن رجب: "لم يثبت في قيامها وصيامها بعينها شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أصحابه" [لطائف المعارف:144].

خامسا: اعتقاد أن ليلة النصف هي ليلة القدر
وقد زعم البعض أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة المباركة المقصودة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [سورة الدخان، الآيتان:3- 4]. قال الشقيري: وهو باطل باتفاق المحققين من المحدثين. اهـ.
وقد رد على هذا الزعم الطبري، وابن كثير، والقرطبي، وبينوا أن القرآن قد نص على أنها في رمضان.
قال ابن كثير: "ومن قال إن الليلة المباركة في سورة الدخان هي ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان". "تفسير ابن كثير": (4/137).

وقال القرطبي في "تفسيره" (16/128) : "ومن العلماء من قال: إن ليلة القدر في شعبان، وهي ليلة النصف من شعبان وهو قول باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة:185]، فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عين من زمانه الليل ههنا {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ‌فمن ‌زعم ‌أنه ‌في ‌غيره ‌فقد ‌أعظم ‌الفرية ‌على ‌الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها" اهـ من كلام القرطبي.

أحاديث واهية:
وقد رويت أيضا في فضائل شعبان - وليلة النصف منه خاصة - أحاديث ضعيفة جدا بل موضوعة.. منها:
- (‌خَمْسُ ‌لَيَالٍ ‌لا ‌تُرد ‌فيهن ‌الدَّعْوةُ: أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِن رجبٍ، ولَيْلَة النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ولَيلَةِ الجُمُعةِ، ولَيْلَةِ الفِطر، ولَيْلَةِ النَّحْرِ).
قال الإمام ابن حجر: وطرقه كلها معلولة، وقال الشيخ الألباني: موضوع".

- (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي).
قد حكم عليه ابن الجوزي وابن القيم بالوضع، وقال ابن دحية: هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام: "والحديث موضوع".

وهذا باب يطول واتباع السنة أولى وأسلم للمسلم وهو سبيل النجاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذِّرُ من مخالفة الكتاب والسنة، ويُبَيِّنُ أن ما خالف الكتاب والسنة فهو بدعة وضلالة، وكان يقول في خطبه: (إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ. وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ. وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها. وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ)(رواه مسلم)، ويقول: (من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتُم من سُنَّتي، وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديِّينَ، عضُّوا عليها بالنواجذِ)[رواه الترمذي].
وأفضل دين المرء ما كان سنة .. .. وشر الأمور المحدثات البدائع.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد