الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفقيه الأميرال 1/2

الفقيه الأميرال 1/2

الفقيه الأميرال 1/2

نحن اليوم في تونس الخضراء قبل ألف ومائتي سنة بالضبط. نحن في يوم من أيام سنة 162 للهجرة، في يوم مشهود، يوم سفر طالب من طلبة العلم إلى المشرق للدرس والتحصيل.

ونحن نرى الطلاب إذا أرادوا التحصيل يذهبون في أيامنا إلى الغرب؛ لأن الغرب أرقى. أما يومئذ فكانوا يأتون من الغرب إلى الشرق؛ لأن الشرق كان أرقى رقيًا وأعظم حضارة.

هذا الشاب الذي اجتمع أهل تونس لوداعه، عمره ثلاثون سنة، غريب عن تونس، أصله من نيسابور، وولد في ديار بكر، وذهب أبوه إلى المغرب في الحملة التي جردها المنصور للقضاء على ثورة البرابرة، فنشأ في تونس وأخذ العلم عن علمائها، حتى إذا استوفى ما عندهم، عزم على الرحلة.

وهكذا رحل هذا الشاب: أسد بن الفرات، فارق تونس سنة 172هـ وتنقل في البلدان، وجاب صحاري، وركب بحارًا، حتى وصل المدينة، وكان للعلم مركزان، جامعتان كبيرتان: جامعة محافظة – إن صح التعبير – تعنى بالنقل وبدراسة النصوص، مقرها المدينة وأستاذها الأكبر مالك، وجامعة مجددة تميل إلى النظر العقلي، والبحث الحقوقي، ومقرها العراق، وأستاذها الأكبر أبو حنيفة.
فقصد جامعة المدينة ولزم الإمام مالكًا رحمه الله.

وكانت لمالك هيبة في الصدور، فلا يجرؤ أحد عليه، وكانت طريقة تلاميذه معه الاستماع، والإقلال من المناقشات، فلا يفرضون الفروض، ولا يقدرون الوقائع التي لم تقع، ويضعون لها الأحكام، كما يصنع علماء العراق، بل يسألون عمَّا وقع من الأحداث، ولا يلحون في السؤال، ولم تعجب هذه الطريقة الشاب التونسي، فجعل يفرِّع من كل مسألة مسألة، ويلح في طرح الأسئلة عليه، ورأى منه تلاميذ مالك هذه الجرأة، فكانوا يحملونه أسئلتهم أيضًا ليلقيها على الإمام مالك.

صحب ابن الفرات مالكًا سنتين، ثم أزمع الانتقال إلى الجامعة الأخرى، جامعة العراق، فدخل على الإمام مودعًا شاكرًا وسأله أن يوصيه. فقال له: "أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة للناس".. ثلاث كلمات جمعت الفضائل كلها.

عراق محمد بن الحسن
ورحل إلى العراق وكان الإمام أبو حنيفة قد مضى إلى رحمة الله، وولى أستاذية مدرسته تلاميذه يقدمهم أبو يوسف ومحمد. وكان الإمام أبو يوسف قد شغل القضاء. وأما الإمام محمد فقد تصدر للتدريس وللبحث، وانتهت إليه رياسة العلماء، فلزمه هذا الشاب المغربي، فكان يحضر دروسه العامة، ثم أحب أن يكون له درس خاص، يغرف فيه ما استطاع من علم الإمام محمد ليحمله إلى بلاده، فطلب ذلك من شيخه..

وبمنتهى التواضع وكرم العلماء وتفرسهم في النجباء ورغم انشغال الشيخ وازدحام الوقت إلا إنه أخذ الشاب المغربي إلى بيته، وأعطاه غرفة بجنب غرفته، وكان يسهر معه الليل، يضع أمام التلميذ قدح ماء، فإذا نعس نضح وجهه ليصحو.
ما طلب منه أجرًا، ولا سأله مالاً، بل كان هو الذي يطعمه ويسقيه؛ ذلك لأن العلم كان في رأي أسلافنا الأولين عبادة، وكان قربة إلى الله، فالطالب يطلب العلم لله، لا للشهادة ولا للدنيا، والأستاذ يعلم العلم لله، لا للمرتب ولا للمنصب.

ولبث أسد بن الفرات أمدًا مع الإمام محمد. وكان أسد أول من نعرفه ـ مع الشافعي ـ جمع بين مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، وبين مدرسة المدينة النقلية، ومدرسة العراق العقلية.

ثم أزمع الرحلة إلى مصر.. وكان يتصدر التدريس في مصر عالمان من تلاميذ الإمام مالك، أشهب وابن القاسم، ولم يكن قد ظهر نجم الشافعي ثم، وكان كلاهما مجتهدًا يخالف إمامه في بعض المسائل، ولكن أشهب فيه حدَّة وفي ابن القاسم أناة ولين.

لزم أشهب حتى سمعه يومًا يرد في مسألة على أبي حنيفة ومالك، بلفظة خشنة، فغضب أسد وكان كما عهدناه صريحًا جريئًا. فصرخ به على ملأ من الناس وقال له قولاً فظيعًا. وفارقه إلى ابن القاسم فلزمه مدة. وجمع ما أخذه من ابن القاسم من مسائل، وأفاض عليها من ذهنه الذي اختمرت فيه علوم تونس والمدينة والعراق، وجعلها في رسالة (مدوَّنة) سماها الأسدية.

دعوى طريفة
وأراد الطلاب نسخها فأبى، وقال: عملتها لنفسي. فرفعوا عليه دعوى، دعوى طريفة جدًا، حار فيها القاضي، ثم حكم بأن الكتاب يجمع مسائل ابن القاسم، وابن القاسم حي يستطيع المدّعون أن يأخذوا منه مثل ما أخذ أسد. وحكم برد الدعوى.
رد الدعوى قضاء؛ لأنه لم يجد نصًا ملزمًا، ولكنه توسط شخصيًا. فرجا أسدًا أن يعطيهم الكتاب، ففعل وتناقلوه عنه. وقدر الله لهذا الكتاب أن يكون أساس الفقه المالكي كله.

ورجع إلى القيروان عاصمة المغرب بعد غيبة امتدت نحوًا من عشرين سنة صرم نهاراتها، وأحيا لياليها، بالعلم والدرس، ولم يضع فيها لحظة في راحة ولا لعب. ولم يصحب فيها إلا الأئمة والعلماء. ما صحب ذا لهو، ولا ذات جمال.

وكان عمره قد قارب الخمسين، فجلس للتدريس والإقراء يوفي دينه. يعطي التلاميذ مثل ما أعطاه الأساتذة: لله لا لأجر أو منصب، وصارت مدونته الكتاب الرسمي لكل مدرسة مالكية، وأخذها عنه سحنون، ومضى سحنون في رحلة إلى المشرق فقرأها على ابن القاسم نفسه. وكان رأي ابن القاسم قد تبدل في بعض المسائل، فكتب إلى أسد ليعدل المدونة فأبى، فأخذ الناس (مدونة) سحنون، وصارت مرجع المذهب المالكي، وبنيت عليها الشروح والحواشي كلها، واشتهرت باسم مدونة سحنون، وإن كان أصلها لأسد.

أمضى أسد بن الفرات عشرين سنة في العلم ثم جاءه المنصب، فقلد القضاء مع أبي محرز.

هذا خبر أسد طالب العلم وأسد الفقيه، وأسد القاضي، فما هو ياترى خبر أسد القائد الأميرال؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باختصار من كتاب "رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة