بسبب غربتي أشعر بالاكتئاب والحزن والحنين للوطن .

2019-10-16 04:48:36 | إسلام ويب

السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا امرأة متزوجة ولدي أربعة أطفال، وأعيش حياة مستقرة نوعا ما.

أطفالي متفوقين ومتميزين بالمدرسة ومحبوبين -لله الحمد-، ولكن مشكلتي في حزني الدائم والشعور بالتعاسة والوحدة، أعيش بغربة قاتلة، وأشعر أنني أسيرة للماضي وللذكريات، ونتيجة ظروف قاهرة اضطررنا للسفر خارج الوطن بعيدا عن الأهل والأصحاب، اندمج أطفالي بالمجتمع الجديد ولكن أنا لم أستطع الاندماج.

أشعر بأنني فاشلة بكل المقاييس والمعايير، وأن حياتي مقتصرة على العمل بالمنزل فقط، وأشتاق دائما لأهلي وحياتي السابقة، أفتعل المشاكل مع زوجي وأطفالي بسبب ودون سبب، وأنعزل وحدي بعد المشكلة، وأبكي كثيرا، وأشعر بالندم.

أصنف نفسي أنني ضعيفة جدا وخجولة، وأحمل الإهانة والظلم في سبيل عدم المطالبة بحقي، خوفا وحياء وضعفا.

أتمنى أن أتغير، لا أستطيع مواجهة أي أحد، حتى وإن كنت على حق، ولا أملك إلا الحزن والدموع.

أنا وزوجي لا نعمل نتيجة لصعوبة الاندماج بالمجتمع الجديد، واختلاف اللغة، وهذا يشعرني دائما بالنقص، وأحسد غيري على حياته، وأجد الجميع يعيشون أفضل مني.

نتيجة للظروف أشعر أنني بعيدة عن الله عز وجل، وأنا أصلي الفرائض فقط، وأحاول جاهدة التقرب إلى الله وأجد صعوبة دائما.

أكثر من الاستغفار والتسبيح لعلّ الله تعالى يزيل عني هذه الغمة، لا رغبة عندي بالحياة، ولا بالضحك أو الابتسام، وبذلك أشعر أنني أظلم عائلتي، لا أتكلم كثيرا، وأقضي جل وقتي على الجوال، باختصار أنا امرأة حزينة وكئيبة جدا، وأشعر أن عمري ألف سنة، وأتمنى الهروب إلى أي مكان أنعزل فيه لوحدي.

أتمنى أن أجد من يقرأ كلماتي ويفهمني.

الإجابــة:

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أم مازن حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بارك الله فيك –أختي الفاضلة–, وأشكر لك حسن ظنك وتواصلك مع الموقع, سائلاً الله تعالى لك التوفيق والسداد، وأن يلهمك الصبر والثبات والقوة والحزم والعون والهدى والرشاد.

لا يخفاك أن رسالتك الكريمة قد أحزنتني -حفظك الله وعافاك وقواك-، وما تضمنتها من التعبير عن شديد لوعتك وحرقتك من ألم الغربة، ولا غرابة في ذلك, فقديما عبر الأدباء والشعراء عن مدى شوقهم لأهلهم وأرضهم بما يدل على تفجر بركان الشوق، وذرف الدموع، وعجز الروح عن النسيان.

وكلنا -أختي الكريمة- قد انتابتنا بل سيطرت علينا أحيانا هذه المشاعر الفياضة, وهي مشاعر طبيعية وعاطفية، ولا شك مؤلمة ومحزنة، يصعب البوح بها والتعبير عنها.

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها
لا يسهر الليل إلا من به ألم ** لا تحرق النار إلا رجل واطيها
روح المحب على الأحكام صابرة ** لعل مسقمها يوما مداويها.

إلا أن الواجب على العاقل أن يتوازن ويعتدل في ضبط مشاعره وأحاسيسه، وأن يقتصد ولا يسرف ولا يجاوز الحد في الحب والبغض، لما لا يخفى عليك من ذم الشرع لكل من الإفراط والتفريط (الغلو والجفاء) في كل شيء، ومنه المحبة والبغض, فقد صح عند مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما يشاء).

كما صح موقوفا عن علي: (أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما, وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما).

واعلمي بأن هذه المشاعر الرقيقة المؤرقة مؤقتة، لا تلبث حتى تزول -بإذن الله- بعامل الزمن، والانهماك في العمل، شأن غيرك ممن فُرضت عليهم ظروف الهجرة والغربة, بل النزوح والتشريد في الأرض, بل إن بعض المهاجرين ربما أحبوا دار هجرتهم وغربتهم مع عامل الزمن أكثر من ديارهم الأصلية مسقط رأسهم؛ ذلك أن وطن الإنسان في الحقيقة حيث سلامة دينه ومصلحته العلمية والعملية والمالية والأمنية.

وما أجمل قول بعضهم:
دخلنا مكرهين لها فلما ** ألفناها, خرجنا مكرهينا
وما حب الديار بنا ولكن ** أمرَّ العيش فرقةُ من هوينا.

وإن لك أسوة حسنة في الرسول وأصحابه من المهاجرين والمجاهدين الذين ألزمتهم ضرورة الأذى أو واجب الجهاد بالهجرة والاغتراب, وكان من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- يخاطب مكة: (والله إنك لأحب البقاع إلى الله, وإنك لأحب البقاع إلي, ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، [رواه مسـلم].

وكذا في أبناء الجاليات والمهاجرين والمغتربين في الأرض الذين لهم حنين كحنينك وآلام كآلامك، الذين ألجأتهم الحروب أو الظروف المادية ونحوها إلى البعد عن الأهل والأرض والزوجات والأولاد وتحمل آلام الغربة المضنية.

نعم فإن الغربة ممنوعة في الأصل، لما تتضمنها وتستلزمها من مفاسد في النفس والأهل لا تخفى, لكنها تشرع عند شدة الحاجات التي تنزل منزلة الضرورات, أو عند الضرورات التي تبيح المحظورات دفعا لمفاسد أكبر، كمفاسد الجهل والمرض والفقر، كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:

"تغرب عن الأوطان في طلب العلا ** وسافر في الأسفار خمس فوائد
تـفـرج هــم واكـتـسـاب مـعـيـشـة ** وعلم وآداب وصحبة ماجد".
"سافر تجد عِوضاً عمّن تفارقهُ ** وانصب فإن لذيذ العيش في النصبِ"

ولذا فإني أوصيك بالتالي:

- استحضار أن الحياة الدنيا قد طبعت على البلاء, وأن مما يسهم في التخفيف من الهموم والأحزان لزوم عبادات وانتظار الفرج واحتساب ثواب الصبر على البلاء والإيمان بالقدر، والرضا بالقضاء حتى يكتب الله لك فرجا ومخرجا, (من يستغن يغنه الله, ومن يستعفف يعفه الله, ومن يتصبر يصبره الله, وما أعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر)، [رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني].

- وما يدريك لعل المستقبل يكون خيرا، فمن لم تكن بدايته محرقة, لم تكن نهايته مشرقة, ومن يفرح أخيراً يفرح كثيراً, والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم).

- ضرورة لزوم الصحبة الطيبة والبعد عن الفراغ القاتل، وشغل النفس بما ينفعها في دينها ودنياها، فإن الوقت والنفس إن لم تشغلهما بالحق شغلتك بالباطل

إن الشباب والفراغ والجدة ** مفسدة للمرء أي مفسدة.

- الترويح عن النفس لدفع التوتر والقلق والاكتئاب بالخروج مع الصحبة الصالحة إلى المتنزهات وممارسة الرياضة ونحوها, ولا يخفاك أن وسائل التواصل والاتصال قد أسهمت مؤخراً في تخفيف آلام البعد والغربة -بفضل الله تعالى- شريطة حسن استعمالها والاستفادة منها.

- لا مانع عند اللزوم والضرورة والإمكان من الانتقال إلى بلدة مناسبة, ومن مراجعة طبيب نفسي مختص.

- لزوم الدعاء والذكر والعبادة وقراءة القرآن وطلب العلم النافع والعمل الصالح: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

- حسن الظن بالله واصطحاب روح التفاؤل والطموح والأمل وقوة الإرادة, والتزام تقوى الله في غربتك والتوكل عليه: (ومن يتقِ الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيءٍ قدرا).

قال تعالى: (إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين), وفي الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. احرص على ما ينفعك, واستعن بالله ولا تعجز) [رواه مسلم].

هذا وأسأل الله تعالى أن يفرج همك ويكشف غمك، ويزيل كربتك، ويرزقك الصبر والاحتساب والأجر، ويجمع شملك مع أهلك وأحبتك قريبا وعلى خير.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

www.islamweb.net