الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نسيان العباد العهد الذي أخذه عليهم ربهم

السؤال

ما هي الحكمة بإننا لا نذكر يوم أقسمنا لله أننا عباده وسوف نعبده؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن الله سبحانه أخبرنا في محكم كتابه أنه لما خلق أبانا آدم عليه السلام أخذ العهد على ذريته أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ* أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {الأعراف:172-173}، فقد أقر الجميع في تلك المرحلة، ولكنهم عندما جاءوا إلى دار الدنيا والشهوات سقط أكثرهم في الامتحان فاتبع هواه وأشرك بالله تعالى، وقد روى ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أن ابن عباس قال: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه... انتهى.

فالله تعالى فطر خلقه على توحيده وعبوديته، فجاءتهم الشياطين الإنسية والجنية فاجتالتهم عن دينهم فاستجابوا لهم وامتنعوا عن طاعة الرسل واتباعهم وأبى أكثرهم إلا أن يشركوا بالله، قال ابن كثير في تفسير آية الأعراف: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه. وفي رواية: على هذه الملة. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. انتهى.

فهذا العهد ثابت بنص الوحي والعبد يولد مقراً به ولكنه يتأثر بواقعه بعد ذلك وقد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية لتأثير الواقع على الفطرة فقال: ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضاً كل ذي حس سليم يحب الحلو إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مراً، ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالعقل، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلماً، وهذه القوة العلمية والعملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع... هي فطرة الله التي فطر الناس عليها. انتهى.

ثم اعلم أن الله تعالى لما انحرف الناس عن التوحيد بعث خيرة خلقه، وهم رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، مذكرين بعهد الله ومبشرين بوعد الله من أطاعه، ومنذرين من وعيده من عصاه، فكان من الناس من أطاع الرسل، ومنهم من اتبع الشيطان واغتر بأكاذيبه وغروره، قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ {البقرة:213}، وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ {الصافات:71-72}، وقال تعالى إخباراً عن إبليس وهو يخطب أمام جماهيره في النار: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {إبراهيم:22}، فهذا العهد ثابت كما ذكرنا وعدم تذكرنا له لا نعلم حكمة فيه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني