الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

معنى قول القاضي عياض: كره قصها وحلقها

السؤال

يعلم الله كم أحبكم فيه عز وجل.وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتكم. وأسأله عز وجل أن يثيبكم على إظهار الإسلام في هذه الصورة الجميلة فيعلم الله أنكم من أفضل مواقع الفتوى " لا إفراط ولا تفريط " وسطية بصدق ليست بالادعاء.
والسؤال حتى لا نطيل على فضيلتكم أريد من فضيلتكم توضيح مسأله معينه وهي : قال القاضي عياض بكراهة حلق اللحية.ومن المعلوم عند فضيلتكم أن بعض العلماء يقصد بالقول بالكراهة التحريم. فهل القاضي عياض يقصد بقوله التحريم أم الكراهة ؟؟
مع العلم أني والحمد لله أعلم بفرضية اللحية وبعدم وجود خلاف عليها إلا من العلماء المعاصرين فيما أعلم؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلفظ القاضي عياض كما في (إكمال المعلم شرح صحيح مسلم): قوله: "واعفوا اللحى" وفي رواية "أوفوا اللحى" وهما بمعنى، أي اتركوها حتى تكثر وتطول ... وكره قصها وحلقها وتحريقها، وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك، وسنة بعض الأعاجم حلقها وجزها وتوفير الشوارب.

ولفظ (تحريقها) أظن صوابه: (تحذيفها)، وكذا نقله في (الفتح) وفي (تحفة الأحوذي) ومعناه قطع أطرافها وتسويتها؛ يقال: حذف الحجام الشعر، إذا قطعه من طرفه، أو سواه وطرره.

والكراهة هنا تحتمل احتمالا غالبا أن المراد بها كراهة التحريم لا التنزيه، ويُرشِّح ذلك قوله بعد ذلك: "وقد جاء الحديث بذم فاعل ذلك". لا سيما وأن كثيرا من المالكية من شراح (الرسالة) لابن أبي زيد، وشراح (مختصر خليل) قد صرحوا بتحريم حلق اللحية.

ومما يؤكد ذلك أيضا أن المشهور عند المالكية أن حلق الشارب ـ بله اللحية ـ مثلة يعزر فاعله. وقد قال القاضي عياض نفسه قبل كلامه السابق: إعفاء اللحية وقص الشارب كالسنة الواحدة؛ إذ هو كالعضو الواحد اهـ.

ونقل عن مالك أنه كان يرى حلق الشارب مثلة ويأمر بأدب فاعله، وكان يكره أن يأخذ من أعلاه. اهـ.

ولا يعقل أن يكون حلق الشارب مثلة توجب التعزير، وحلق اللحية لا يتعدى مرتبة الكراهة التنزيهية.

وهذا الاستعمال للكراهية شائع في كلام المتقدمين.

قال الزركشي في (البحر المحيط): يطلق المكروه على أربعة أمور، أحدها: الحرام, ومنه قوله تعالى: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }. أي محرما, ووقع ذلك في عبارة الشافعي ومالك. اهـ.

ولابن القيم في كتابه القيم (إعلام الموقعين) كلام نفيس في هذه المسألة، ونص فيه على أن المكروه عند أصحاب مالك: مرتبة بين الحرام والمباح. ونص كلامه بطوله: قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا, ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام, وما كانوا يجترئون على ذلك, وإنما كانوا يقولون: نكره كذا, ونرى هذا حسنا; فينبغي هذا, ولا نرى هذا. ورواه عنه عتيق بن يعقوب, وزاد: ولا يقولون حلال ولا حرام, أما سمعت قول الله تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ؟ } الحلال : ما أحله الله ورسوله, والحرام ما حرمه الله ورسوله. قلت (ابن القيم): وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك, حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم, وأطلقوا لفظ الكراهة, فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة, ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه, وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى, وهذا كثير جدا في تصرفاتهم; فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة, وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: أكرهه ولا أقول هو حرام. ومذهبه تحريمه, وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان ... وكذلك غيره من الأئمة ... وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح, ولا يطلقون عليه اسم الجواز, ويقولون: إن أكل كل ذي ناب من السباع مكروه غير مباح; وقد قال مالك في كثير من أجوبته: أكره كذا, وهو حرام .. اهـ.

وقد نقل الشيخ ابن جبرين كلام القاضي عياض ثم قال: ولعله أراد كراهة التحريم. اهـ.

وإذا قلنا إن مراد القاضي عياض بالكراهة هنا كراهة التنزيه، فهذا لا يعني القطع بأن حلق اللحية خاصة مكروه عنده كراهة تنزيهية !! فإنه يمكن حمل مجموع عبارته: (وكره قصها وحلقها وتحريقها) على بعض اللحية لا كلها، ويكون ذلك بالأخذ منها أو تسويتها وهو المراد بالقص والتحذيف، أو بإزالة بعض أجزائها بالحلق التام وترك بعضها، كما نشاهده اليوم. ومما يرشح هذا أن النووي في (شرح مسلم) نقل كلام عياض ثم قال: والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا. اهـ.

وكذا نقله ابن حجر في (الفتح) ثم قال: كذا قال، وتعقبه النووي بأنه خلاف ظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها. اهـ.

ونقله كذلك العراقي في (طرح التثريب) في معرض الكلام على أولوية ترك اللحية على حالها وأن لا يقطع منها شيء، ثم أعقبه بقول القرطبي في (المفهم): لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قص الكثير منها. اهـ. والقرطبي مالكي المذهب كما هو معروف.

فكأن المسألة إنما هي مسألة الأخذ منها لا استئصالها بالكلية، وراجع للفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 76203، 67598، 71215.

ومما يؤكد هذا قول عياض قبل هذه الكلمة: أي اتركوها حتى تكثر وتطول.

ومما يزيد الأمر وضوحا أن المتقدمين من المالكية إلى عصر ابن عبد البر لم نجد لهم كلاما في حكم حلق اللحية أصلا، بل كلامهم في حكم الأخذ منها فحسب، ولم يتعرض الحافظ ابن عبد البر لمسألة الحلق في (التمهيد) وإنما ذكر الخلاف في الأخذ منها فقال: واختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم، وأجازه آخرون ..اهـ.

وعلى أية حال، فلو سلمنا بأن حلق اللحية بالاستئصال التام مكروه كراهة تنزيه عند القاضي عياض ـ وهذا أمر مستبعد ـ فلا يعد الأمر إثبات خلاف في القرن السادس الهجري في حرمة حلق اللحية، ويبقى النظر بعد ذلك في حصول إجماع سابق على حرمة حلقها بالكلية، وما هو الراجح من أقوال الأئمة بحسب موافقة الأدلة الشرعية.

ثم ننبه على أن من حكم بكراهية حلق اللحية أخذا بقول القاضي عياض ـ أنه يلزمه أيضا أن يحكم بكراهة تسوية اللحية والأخذ منها، إعمالا لبقية العبارة، ولكلام القاضي الذي سبق ذلك في تفسير أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية بقوله: "أي اتركوها حتى تكثر وتطول".

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني