الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهات وجوابها حول الحديث والسنة وبعض الحدود

السؤال

فضيلة الشيخ
حفظكم الله يا شيخنا الفاضل وزادكم الله من واسع فضله وعلمه.
فضيلة الشيخ.
صحيح البخاري يعتبر من أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، ويعتبر المرجع القوي والسند المتين لأهل السنة والجماعة. وعلى الرغم من ذلك إلا أننا بدأنا نقرأ المواضيع التي تشكك في صحة أحاديث البخاري، علماً بأن هؤلاء الكتاب من أهل السنة والجماعة، يقول أحدهم بعد أن رد عليه أحد الإخوة بقوله :
((صحيح البخاري خط أحمر لأن كل ما فيه صحيح وثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو صفوة الصفوة ))
فكان الرد من صاحب الموضوع كالتالي :
من قال لك هذا الكلام أخي يوسف .. البخاري رحمه الله كتب كتابه بعد أكثر من مئتي سنة على الهجرة
فهل من المعقول أن تكون الأحاديث كما قالها الرسول !!
يا أخي أنت عندما ترى حادثاً وترويه لشخص آخر والآخر يرويه لآخر وهكذا
فهل تتوقع أن تصبح القصة هي نفسها ( بأدق التفاصيل ) بعد شهر ؟
فكيف بمائتي عام !!
والرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه أمر بعدم كتابة الحديث والرسول لا يأمر بشيء عبثاً أو تشهياً.
جمال البنا استخرج أكثر من 600 حديث في البخاري فيها تعارض مع القرآن ..
الإمام الغزالي قبله ضعف أحاديث في البخاري لمخالفتها للعقل ..
ما يجب أن يُعرف أن البخاري بشر يعتريه ما يعتري بقية البشر من أمراض القلوب والسهو والنسيان والخطأ وغيره ..
و يتأكد ذلك إذا علمنا أن الرسول قد نهى عن كتابة الحديث، وأن الأحاديث لم تكتب إلا بعد أكثر من قرن ونصف من وفاة الرسول فهي قابلة للتحريف بشكل كبير جداً.
أرى أن الأحاديث الصحيحة متناً وسنداً غير المعارضة للقرآن آخذ بها مع إيماني أنها ليست صحيحة صحة تامة ولكن لغلبة الظن، أما الأحاديث التي تخالف ولو كلمة واحدة من القرآن فأنا لا أقبلها ولا أقبل تأويلها تأويلاً تعسفياً بحيث تكون موافقة للآية، ولا أقبل بمن يقول إن الحديث ينسخ القرآن لأن هذا كلام فارغ.
بيد أنها تعارض القرآن الكريم ومنها حديث حد الردة فهو يخالف صريح القرآن (( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ))
كانت للسنة حجية لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتها كما كتب القرآن بيد أنه أمر بعكس ذلك وهو عدم الكتابة فكيف يأمر بذلك إذا كانت السنة مكملة للشرع ؟
أما ما ورد من كتابات بعض الصحابة للأحاديث فقد ورد خلافها أيضاً وورد جلد بعض الصحابة لكتابتهم الحديث.
وهنا أيضاً نقع في إشكال آخر وهو التناقض في الآثار الصحيحة وهذا يبين على أن الأحاديث قد اخترقت اختراقاً عظيماً، ولو أننا تتبعنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الكتابة لكان خير لنا ( بلا شك ) فهو أدرى بأمته من غيره.
و أيضاً ورود ما يدل على الكتابة مع وجود النهي يدل على شذوذ هذا الفعل وبهذا الشذوذ لا يمكن أن تخرج آلاف الأحاديث بل المتوقع ( في تلك الإمكانيات ) خروج عشرات الأحاديث أو مئات الأحاديث ( كحد أعلى )
حديث حد الردة .
القرآن الكريم عرض حرية الاعتقاد وعرض الردة في آيات كثيرة ولم يرتب عليها عقوبة .
حديث حد الرجم فالقرآن لم يفرق بين المحصن وغير المحصن في القرآن أما لي أعناق النصوص لتوافق الأحاديث هذا غير صحيح.
وثبوت حد الرجم مضحك جداً والآيات التي تفنده بالقرآن كثيرة ومنها: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا.(30).الأحزاب.
كيف يضاعف الرجم ؟ لا يمكن للرجم أن يضاعف بيد أن الجلد يمكن مضاعفته، والآيات في تفنيد ذلك الحد كثيره كما قلت. وللعلم فكل الحدود مذكورة في القرآن إلا حد الردة والرجم إذن فنهج القرآن هو عرض الحدود .
حديث: من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا .. يقول الله تعالى : وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن.
والآيات في الأمر بالقول المعروف والآيات التي تبين حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُذكر ..
فهذه الآيات كلها تخالف في ظاهرها هذا الحديث المنكر.
والأحاديث المخالفة للقرآن كثيرة جداً .. ولو يهتم أحد العلماء بتنقيح الأحاديث كما قام بذلك الشيخ الألباني ..
لكن ليس من جهة الإسناد بل من جهة المتن .
وللعلم فكل الأحاديث ليست يقينية الثبوت .. فالبخاري أخذ كتابه من 600 ألف حديث ولم يكتب منها إلا خمسة آلاف أو تزيد.
وجاء بعده أئمة وضعفوا أحاديث في البخاري نفسه كالدارقطني ضعّف أكثر من 300 حديث بالبخاري .
وجاء الألباني.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فأما كون الإمام البخاري رحمه الله ألف صحيحه بعد قرنين من موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يعقل أن تدون الأحاديث بعد هذه المدة كما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا وإن كان معقول المعنى إلا أن قائل هذا الكلام غفل عن الشروط الدقيقة التي وضعها المحدثون ولاسيما أمثال البخاري لقبول المرويات، فهم لا يقبلون إلا من الثقة، وهو الذي يجمع بين العدالة والضبط، ومع ذلك فلابد من خلو روايته من الشذوذ والعلة، وهذه مسالك في غاية الدقة لا يحسن تعاطيها إلا جهابذة أهل العلم ممن أفنوا أعمارهم في خدمة السنة جمعا ودراسة وتمحيصا، ولا يمكن للمرء أن يقف على حقيقة هذا الأمر إلا إن درس علوم الحديث وعرف الجهود المضنية التي يسر الله لها أهل الحديث من هذه الأمة، حيث وضعوا قواعد وضوابط في غاية الإتقان، وبذلوا في ذلك من الجهد ما يشهد لحفظ الله تعالى لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى قد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الله قد حفظ السنة كما حفظ القرآن، كما سبق التنبيه عليه في الفتويين: 28205، 19694. وهذا العلم الشريف بنقد الروايات وتمحيصها تفرد به المسلمون، فلا يوجد عند أمة من الأمم غيرهم، لذلك قال المستشرق المجري مارجيليوس: ليفتخرْ المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. اهـ.

والمقصود أن أصل الإشكال عند هذا المتكلم أنه قاس حال المحدثين في قبول المرويات بحال غيرهم ممن يفتقد الضبط بل والعدالة.

ثم إننا ننبه أن صحيحي البخاري ومسلم من دون غيرهما من المصنفات الحديثية، لهما شأن خاص، فليس الأمر مجرد عناية بشرط الصحة والنظر في الأسانيد، بل الأهم من ذلك هو تلقي علماء الأمة لهما بالقبول والتسليم، وأن الأصل هو صحة روايتهما، وبذلك يعرف تهافت الاستدلال ببشرية البخاري فإن هذا ليس محلا للنزاع، ولكنه لا يصلح مطعنا في صحيحه بعد تلقي الأمة له بالقبول. وأما ما انتقد عليهما فغالبه متوجه للصناعة الحديثية وليس لمتون الأحاديث، وهذا مع الأسف لا يدركه أكثر المعاصرين الذين تناولوا هذه المسألة الخطيرة، وحتى الأحاديث النادرة التي ينتهض انتقاد المنتقد لها لا تنقض جلالة الصحيحين، وقد سبق أن بينا ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 13678، 134033، 128476، 70192.

وننبه هنا على أمر مهم في هذا الشأن، وهو أن الطعن في أحاديث البخاري وحجيته من حيث الجملة، يختلف اختلافا جذريا عن انتقاد حديث أو أحاديث بعينها لأسباب علمية صرفة، ممن هو أهل لذلك من الراسخين في هذا العلم كالدارقطني ونحوه. وهذا الخلاف ليس من حيث الصورة والظاهر فقط، بل من حيث المقصد والغاية بالأساس، ففرق هائل بين من كان يقصد صيانة السنة والذب عن حياضها بالتحري والتثبت العلمي، وبين من يقصد هدمها وتقويض بنائها، والطعن في أصل ثبوتها وصحة نقلها.

وأما مسألة كتابة الحديث والنهي عنها، فقد صدق القائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر عبثا بعدم كتابة غير القرآن. ولكنه صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه لم يأذن عبثا لبعض أصحابه بالكتابة، فكلا الأمرين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعلة في ذلك أن لا يختلط القرآن بغيره، في عصر كانت أدوات الكتابة فيه قليلة ومحدودة، ولا يحسنها إلا نفر قليل، ومن تأمل هذه الحال، واستحضر ضرورة نقل القرآن بلفظه وحرفه، عرف أن مورد الإذن غير مورد المنع، وقد سبق لنا الكلام على كتابة الحديث وتدوينه في الفتويين: 8516، 13196.

وأما مسألة التعارض بين القرآن والسنة، فتناولها بالطريقة المذكورة في السؤال لا يأتي فقط على السنة، بل يأتي على القرآن نفسه، فقد زعم كثير من الملحدين وأهل الملل الباطلة أن بين آيات القرآن نفسه تعارضا. فطريقة إبطال هذه الدعوى هي هي طريقة إبطال تلك، فإن السنة النبوية في مجال التشريع إنما هي وحي من الله تعالى، فكما نجمع بين آيات القرآن بحمل كل آية على المراد بها، فكذلك نفعل إذا كان بين ظاهر القرآن والسنة نوع اختلاف. وراجع الفتوى رقم: 113857.

وأما مسألة مخالفة السنة للعقل، فهذا أمر وارد، فإن العقول البشرية بضعفها وقصورها وضيق عطنها، لا يمكن أن تستوعب حكم التشريع، ولا أن تحيط بموارد الغيب، فإذا خالفت السنةَ كان الحكم للسنة بلا ريب، هذا مع أن هذا التعارض بين السنة والعقل، قد ذُكر مثله أيضا مع القرآن فهل نَردُّ القرآن كذلك لمخالفته بعض العقول السقيمة والآراء الساقطة؟! وهنا ننبه على أن العقل الصريح لا يمكن أن يخالف النقل الصحيح، وأن الوحي وإن كان يأتي بما تحار فيه العقول، فإنه لا يمكن أن يأتي بما تحيله العقول، وقد سبق لنا بيان ذلك، وبيان أن تحكيم العقل في أحكام الشرع زيغ وضلال، فراجع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 20458، 23028، 129696، 39932.

وأما مسألة نسخ السنة للقرآن، فمحل خلاف بين أهل العلم قديما وحديثا، والجمهور على أن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. وراجع في ذلك الفتويين: 22660، 46669.

وأما حد الردة، فصحيح أنه لم يثبت في القرآن، إلا أن ذلك ليس بمطعن؛ لأنه ثبت بالسنة الصحيحة، ونقل العمل به منذ عصر الصحابة تواترا، بما يفيد العلم القطعي بثبوته. ثم إن هذا لا يعارض حرية الاعتقاد، لأنه صورة مستثناة لمصلحة عامة، ولا تعارض بين خاص وعام، فكل كافر لا يصح أن يكره على الدخول في الإسلام، ولكنه إن دخل فيه فلا يقبل منه الردة عنه، وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 13987، 33562، 50846.

وأما حد الرجم فقد سبق أن بينا ثبوته بالكتاب والسنة للزاني المحصن، وراجع في ذلك الفتويين: 26483، 42939.

وأما الاستدلال بقوله تعالى: يا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ. {الأحزاب: 30}. على عدم التفريق بين المحصن وغيره، توسلا لإبطال حد الرجم فهذا هو المضحك حقا، وليس كما يقول هذا القائل: ثبوت حد الرجم مضحك جدا. فهذه الآية لا تتكلم أصلا عن عقوبة الدنيا، بل الآخرة، ولو قرأ هذا القائل الآية التي بعدها فضلا عن حفظها لتبين له ذلك، حيث يقول تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا {الأحزاب: 31}. فهل مضاعفة الأجر تكون هي الأخرى في الدنيا؟! ومما يبين ذلك أيضا أن في قراءة ابن كثير وابن عامر: (نُضعِّف لها العذابَ) بالنون وكسر العين وتشديدها، ونصب العذاب، فهي منسوبة إلى الله تعالى، ولا يكون ذلك إلا في الآخرة. ومن المفسرين من فسر المضاعفة بالجمع بين عذاب الدنيا والآخرة، كما قال زيد بن أسلم: {يضاعف لها العذاب ضعفين} في الدنيا والآخرة. اهـ.

وكذلك فإن الراجح في تفسير الفاحشة هنا أنها المعاصي الظاهرة كالنشوز وسوء المعاملة.

قال ابن الجوزي في زاد المسير: بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي بمعصية ظاهرة، قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ أي يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين، كما أنها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين. اهـ.

وبالجملة فكثير من المستشرقين والمستغربين وأذنابهم قد أثاروا الشبهات حول هذين الحدين على وجه الخصوص: حد الرجم، وحد الردة، وذلك لأن الكلام على الحدود الثابتة في القرآن كحد السرقة وحد القذف، فيه طعن ظاهر في القرآن، فلم يجترئ عليه المنتسبون للإسلام منهم. وقد تناول ذلك جمع من الباحثين بالرد والتفنيد والبيان، ومن ذلك بحث الدكتور عماد الشربيني (عقوبتا الزاني والمرتد ودفع الشبهات في ضوء القرآن والسنة) فيمكن الرجوع إليه للتوسع في ذلك.

وأما حديث "من تعزى بعزاء الجاهلية" فقد سبق لنا بيان ما فيه والحكمة من ورائه، في الفتاوى ذوات الأرقام: 71170، 113416، 55887.

وأما المسألة الأخيرة، وهي انتقاء البخاري لأحاديث صحيحه من أكثر من (600 ألف حديث) على حد قول هذا القائل، فقد سبق أن بينا سبب عدم استيعاب البخاري ومسلم جميع ما صح عندهما في صحيحهما، وذلك في الفتوى رقم: 129325.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني