الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما يجري في البلاد العربية حاليا وخطوات الإصلاح

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم
نسأل الله نصرة الإسلام والمسلمين.
ما الذي يجري في الدول العربية ؟ هل صحيح أننا سنمحو الظلم بجعل الحكام يتساقطون ؟ هل الفساد فقط في الحكومات ؟ لماذا لا نبدأ بإصلاح ذاتنا ؟ ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ؟؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما يجري في الدول العربية وغيرها من البلاد إنما هو بقضاء الله وقدره، وليس بالضرورة أن يكون ذلك كله على سبيل الإصلاح، فقد يكون بعضه كذلك، وبعضه على سبيل الانتقام من ظالم أو الانتصار لمظلوم. وقد ذكر المؤرخون ـ كالخطيب البغدادي وابن كثير والذهبي وابن الأثير ـ في ترجمة يحيى بن خالد البرمكي أشهر وزراء دولة بني العباس، بعد أن ضيق هارون الرشيد عليه وحبسه هو وولده، أن ابنه جعفر بن يحيى قال له وهم في القيود والحبس: يا أبت بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة، أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني! دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول: رب قوم قد غدوا في نعمة ... زمنا والدهر ريان غدق. سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق اهـ.
وفي كتاب الله تعالى ما يشهد لذلك، كما في قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) [الحج].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. رواه البخاري.
وأما سقوط الظالمين، فبغض النظر عن سببه وطريقة حصوله، فإنه مظهر من مظاهر عدل الله تعالى وقيومته ورحمته بعباده، فهو نعمة وفضل منه سبحانه يستحق عليها الحمد، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) [الأنعام].

قال القاضي البيضاوي في (أنوار التنزيل): وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم، فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها. اهـ.
وقال العلامة الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير): وفي ذلك كله تنبيه على أنه يحق الحمد لله عند هلاك الظلمة، لأن هلاكهم صلاح للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب. وهذا الحمد شكر لأنه مقابل نعمة. وإنما كان هلاكهم صلاحا لأن الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغير الحق والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم، فإذا هلك الظالمون عاد العدل، وهو ميزان قوام العالم. اهـ.
وأما قول السائل الكريم: (هل الفساد فقط في الحكومات؟) فجوابه: لا، ولكنها في واقعنا المشاهد تكون راعية له، قائمة عليه، حتى بلغ الحد في بعض البلاد أن تفرض حكومتها الفساد على الناس فرضاً، وتحارب من يتصدى له وتضطهده وقد تقتله، فصارت هي الفساد وبه تُعرَف، وهي الظلم وإليها يؤول، وهي البطش والعسف وعليها يقوم. وأدنى تأمل لحال أولى الدول التي حدث فيها ذلك وانطلقت منها شرارتها، ينبئك عن ذلك.

وإذا حصل هذا التأمل والتدبر لهاتيك الأحوال التي كانت عليها هذه الدول لم يغب جواب سؤال الأخ السائل: (لماذا لا نبدأ بإصلاح ذاتنا ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟) فقد كانت هذه الحكومات هي أكبر العوائق بل الموانع من ذلك، فلم يكن مصير من يأمر وينهى إلا ما يعرفه القاصي والداني من الحبس، أو التعذيب والقتل.
ولا نعني بذلك أن إصلاح النفوس لا يمهد لتغيير الأحوال، كيف وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. ولكننا نعني أن الاقتصار دائما على خاصة النفس دون الالتفات للقدر المتاح الذي يمكن تحصيله من إصلاح الأوضاع العامة، لا يترتب عليه كبير أثر، بل قد يكون في بعض الأحيان هروبا من الواقع، وفرارا من تحمل الأمانة والمسؤولية، وركونا إلى الدنيا، وإيثارا للسلامة على إعلاء كلمة الله، وقد قال ربنا تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا[النساء: 77]. وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. (39) [التوبة].

وقد سبق لنا بيان أن الأمر الجامع والدور الأصيل الذي ينبغي أن يوضع في مقدمة وسائل التغيير والإصلاح هو: سعي المسلم لصلاح نفسه بالاستقامة على طاعة الله، وإصلاح غيره ببذل النصيحة والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتربية الأولاد ومن في حكمهم على هدي النبوة، وإعدادهم ليوم تبُذل فيه النفوس والأموال إرضاءً لرب العالمين، ونصرة للمستضعفين، وذوداً عن هذا الدين، فراجع الفتوى رقم: 117247.
كما سبق لنا بيان أن السبب الرئيس في ضعف الأمة الإسلامية هو حال المسلمين أنفسهم، وأن حال حكامهم إنما هو انعكاس لحالهم مع ربهم، فما من مصيبة تنزل بالعبد إلا بكسبه وبما جنته يداه، فراجع الفتوى رقم: 119405.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني