الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ضوابط في مسألة إقامة الحجة لتكفير المعين

السؤال

ما هي الضوابط في موانع تكفير المعين؟ فأنا أعرف أن منها الجهل والإكراه والنسيان والتأويل وغيرها لكن ما هو الضابط في ذلك؟ فإنه من الممكن أن يري الإنسان رجلا كافرا ويذهب إلى الكنيسة مثلا ويصلي صلاة النصارى ويلبس الصليب إلخ، أو رجلا يسجد لصنم بوذا ويعبده عبادة صريحة إلخ ومع هذا تجد ناسا يتوسعون جدا في هذا الأمر ـ بل يفرطون ـ فيقولون لابد أن تقام عليه الحجة قبل أن نحكم عليه بأنه كافر فلعله يكون مكرها أو جاهلا أو ناسيا أو متأولا وهكذا، وبهذه الطريقة لا يمكن أن نحكم على أشد الناس كفرا بأنه كافر أو لا تكاد تجد كافرا أصلا، لأنه لم تقم عليه الحجة ـ في نظر هؤلاء ـ فما الضابط في موانع التكفير، لأن هذه المسألة حساسة جدا وكثير من الإخوة يختلفون فيها؟ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فهناك من الأعمال الظاهرة ما هو كفر أكبر بالإجماع، قال الشيخ حافظ حكمي في أعلام السنة المنشورة: إذا قيل لنا: هل السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول والهزل بالدين ونحو ذلك هذا كله من الكفر العملي فيما يظهر، فلم كان مخرجا من الدين وقد عرفتم الكفر الأصغر بالعملي؟ الجواب: أن هذه الأربعة وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر للناس، ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده لا يبقى معها شيء من ذلك، فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولا بد ولم تكن هذه لتقع إلا من منافق مارق أو معاند مارد، وهل حمل المنافقين في غزوة تبوك على أن قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا { التوبة: 74 } إلا ذلك مع قولهم لما سئلوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ {التوبة: 65}قال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ { التوبة: 65ـ 66} ونحن لم نعرف الكفر الأصغر بالعملي مطلقا، بل بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب ولا عمله. اهـ.

وبذلك يتضح أن عمل الجوارح الذي يدل على انخرام الباطن وزوال الإيمان منه، لابد أن يعطى حكمه الذي يليق به، فإن وقع ذلك من الكفار الأصلين فلا إشكال، وأما إن وقع ممن يدعي الإسلام فلا يقبل منه دعواه إلا مع عذر الإكراه، فإن من القواعد الشرعية المقررة قاعدة الحكم بالظاهر، قال الشاطبي في الموافقات: أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما أيضا. اهـ.

وقال أيضا: الأعمال الظاهرة في الشرع دليل على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وفي سائر أحكام العاديات والتجربيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي، وعدالة العدل وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق إلى غير ذلك من الأمور، بل هو كلية التشريع وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة. اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: من أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم. اهـ.

ولمزيد الإيضاح نقول: إنه يجب التفريق بين الأعمال التي لا تحتمل إلا الكفر، وبين ما يحتمل الكفر وغيره؟ وبين ما يحتمل العذر بجهل أو تأول أو غير ذلك وبين ما لا يحتمل، قال الدكتور محمد الوهيبي في نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف بعد أن قرر قاعدة الحكم بالظاهر: هل ينطبق هذا الكلام على المسلم إذا أظهر الكفر فيحكم بكفره بمجرد ذلك بناء على هذا الأصل ... يقال فيه: إن هناك فرقاً بين الحكم بإسلام المعين والحكم بكفره، فالحكم بإسلامه يكفي فيه الإقرار والظاهر وهو إسلام حكمي قد يكون معه المعين منافقاً في الباطن، أما الكفر فليس حكماً على الظاهر فقط، وإنما هو حكم على الظاهر والباطن بحيث لا يصح أن نحكم على معين بالكفر مع احتمال أن يكون غير كافر على الحقيقة، ولذلك لابد من النظر للعمل الذي عمله هذا المعين هل هو أمر لا يحتمل غير الكفر؟ أم أمر يحتمل الكفر وعدمه؟ أم أن الأمر كفر في ظاهره ولكن يحتمل أن يكون معذوراً بجهل أو تأول. اهـ.

ولمزيد الفائدة والتفصيل في ذلك يمكن الاطلاع على الفتاوى التالية أرقامها: 156009، 137051، 121629، 12800.

وأخيرا ننبه على أن إقامة الحجة في تكفير المعين ليست شرطا في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، قال الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في نواقض الإيمان القولية والعملية: إقامة الحجة ليس لكل مسألة مطلقاً، فهناك أمور ـ كالمسائل الظاهرة مما هو معلوم من الدين بالضرورة ـ لا يتوقف في كفر قائلها، ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس ... وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله ـ ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إن الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد، وأما ما علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني