الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يكشف الله الستر عن العاصي ويفضحه

السؤال

هل يمكن أن يفضح الله شخصا يعصيه في الدنيا، ولكن في الخفاء. فهل يمكن أن يفضحه الله في الدنيا، علما أنه يعصيه في الخفاء مثلا كالذي يمارس الاستمناء، أو يفعل أي شيء حرام آخر ولكن في الخفاء مستترا. وكيف تكون الفضيحة إن كانت الإجابة بنعم مثلا؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالله تبارك وتعالى موصوف بالحياء والستر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل حيي ستير، يحب الحياء والستر. رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني.

قال ابن قتيبة في (مشكل الحديث): معنى ستير أي ساتر، يستر على عباده كثيرا من عيوبهم، ولا يظهرها عليهم، وستير بمعنى ساتر، كما جاء قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم. اهـ.
وقال ابن القيم في نونيته:
وَهُوَ الْحَيِي فَلَيْسَ يفضح عَبده ... عِنْد التجاهر مِنْهُ بالعصيان

لكنه يلقِي عَلَيْهِ ستره ... فَهُوَ الستير وَصَاحب الغفران
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله.
فهذا يدل على أن الله تعالى يستر عبده المؤمن المستتر بالمعصية في الدنيا، ثم يتم عليه ستره يوم القيامة.

قال ابن حجر في (فتح الباري): العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: أحدهما: من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين: قسم: تكون معصيته مستورة في الدنيا، فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة، وهو بالمنطوق. وقسم: تكون معصيته مجاهرة، فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك. اهـ.
وهذا وإن كان هو الأصل أو الغالب، إلا أن حكمة الله تعالى قد تقتضي في بعض الأحيان في حق بعض الناس أن يرفع الله عنه ستره، ويظهر عيبه أو ذنبه لبعض خلقه، إما تعجيلا للعقوبة، أو تنبيها وزجرا للمؤمن، أو عبرة لمن يعتبر، أو غير ذلك من الحكم التي لا نحيط بها علما، فيبقى المؤمن راجيا عفو الله وستره، خائفا من مكره وعقابه؛ قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10].

قال ابن عطية: {يَمْكُرُونَ} معناه يتخابثون ويخدعون، وهم يظهرون أنهم لا يفعلون، ويَبُورُ معناه يفسد، ويبقى لا نفع فيه. اهـ.

وقريب من هذه المسألة: مسألة فضح العاصي، هل يمكن أن يكون من أول مرة، أم لا يكون إلا بعد التكرار؟ فهذا محل خلاف بين أهل العلم.

قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): هل يفضح الله عز وجل عاصيا بأول مرة أم بعد التكرار؟ فيه قولان للعلماء، والثاني مروي عن عمر وغيره من الصحابة، واختار ابن عقيل في الفنون الأول، واعترض على من قال بالثاني: ترى آدم هل كان عصى قبل أكل الشجرة بماذا؟ فسَكَّت. اهـ.
وأثر عمر هذا أورده ابن كثير في (مسند الفاروق) بإسناد ابن خزيمة من طريق حميد عن أنس أن عمر أتي بشباب قد حلَّ عليه القطع، فأمر بقطعه، فجعل يقول: يا ويله، ما سرقت قط قبلها ! فقال عمر: كذبت ورب عمر، ما أسلم الله عبدا عند أول ذنب.
ثم قال: إسناده صحيح، وقد استدلوا به على أنه إذا قذف رجلا فلم يحد القاذف حتى زنا المقذوف، فإنه لا يحد القاذف؛ لأنا استدللنا بذلك على تقدم زناه قبل القذف، والحدود تدرأ بالشبهات. اهـ.
وقال ابن حجر في (إتحاف المهرة): موقوف حكمه الرفع، كتبته لصحة سنده. وروي معناه عن قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب، عن أبي بكر. وهو منقطع. اهـ.
وقال في (التلخيص الحبير): إسناده قوي. اهـ.
وقال الرازي في تفسيره: لو قذف محصنا، فقبل أن يحد القاذف زنا المقذوف، سقط الحد عن قاذفه؛ لأن صدور الزنا يورث ريبة في حاله فيما مضى؛ لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية، فبظهوره يعلم أنه كان متصفا به من قبل ... وقال المزني، وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف. اهـ.

وراجع لمزيد الفائدة الفتويين: 215413، 179515.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني