الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل الخوف من حدوث مصيبة من سوء الظن بالله؟ وهل الخوف منها يؤدي إلى وقوعها؟

السؤال

هل الخوف من حدوث مصيبة يعد سوء ظن بالله؟ وهل الخوف من المصيبة يؤدي إلى وقوعها -كما نسمع-؟ أم أن الخوف أمر طبيعي؟ وهل يتنافى الخوف مع حسن الظن بالله؟ أفتونا -بارك الله فيكم-.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالخوف من حدوث مصيبة متوقعة لا يعد سوء ظن بالله، بل هو من الخوف الجبلي، ولم يسلم من ذلك حتى الأنبياء، فقد خاف موسى بطش فرعون وجنوده، ففرّ منهم، فقال لفرعون: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ {الشعراء: 21}.

وكذلك أوجس عليه الصلاة والسلام خيفة لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، مع أنه مؤيد بمعجزة من عند الله تعالى، وكذلك قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بعض المصائب؛ وذلك حذرًا من أن يصاب بها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.

قال النووي -رحمه الله-: فأما الاستعاذة من سوء القضاء: فيدخل فيها سوء القضاء في الدين, والدنيا، والبدن, والمال، والأهل, وقد يكون ذلك في الخاتمة.

وأما درك الشقاء: فيكون أيضًا في أمور الآخرة والدنيا، ومعناه: أعوذ بك أن يدركني شقاء.

وشماتة الأعداء هي: فرح العدو ببلية تنزل بعدوه، يقال منه: شمت بكسر الميم، وشمت بفتحها فهو شامت، وأشمته غيره.

وأما جهد البلاء: فروي عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال، وكثرة العيال, وقال غيره: هي الحال الشاقة. انتهى.

وأما إذا كان هذا الخوف مبنيًا على التطير والتشاؤم، فإنه يكون من سوء الظن بالله تعالى، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتح الباري: قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ؛ لِأَنَّ التَّشَاؤُمَ سُوءُ ظَنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ، وَالتَّفَاؤُلُ حُسْنُ ظَنٍّ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ. انتهى.

وأما إذا تجاوز الخوف الجبلي الحد المعتاد، بحيث يسيطر على الفكر، فإن ذلك من وساوس الشيطان.

وأما أن الخوف من المصيبة سيؤدي إلى وقوعها، فغير صحيح، ولكن قد يعاقب بوقوع المصيبة من كان خوفه مبنيًا على التشاؤم ليذوق وبال إساءة الظن بالرحمن الرحيم الحكيم الخبير جل وعلا، وقد جاء هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: والطيرة على من تطير. حسنه الألباني.

قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في تعليقه على هذا الحديث في كتاب مفتاح دار السعادة: وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به، كما يجعل الثقة والتوكل عليه، وإفراده بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به، وسر هذا أن الطيرة إنما تتضمن الشرك بالله تعالى، والخوف من غيره، وعدم التوكل عليه، والثقة به، فكان صاحبها غرضًا لسهام الشر والبلاء فيتسرع نفوذها فيه؛ لأنه لم يتدرع من التوحيد والتوكل بجنة واقية، وكل من خاف شيئًا غير الله سلط عليه، كما أن من أحب مع الله غيره عذب به، ومن رجا مع الله غيره خذل من جهته، وهذه أمور تجربتها تكفي عن أدلتها. انتهى.

ولكن هذا ليس عامًا في كل ما يتوقعه الإنسان من شر، بل هو خاص بما توقعه على وجه التشاؤم وسوء الظن بالله، كما يدل عليه ظاهر الحديث، بل ليس كل ما يتطير به الإنسان يقع عليه شره، بل هذا راجع إلى مشيئة الله وتقديره؛ ولذا قال ابن بطال في شرحه لهذا الحديث: فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما تلزم من تطير بها، وأنها في بعض الأشياء دون بعض. انتهى.
وعلم مما سبق أن الخوف لا يتنافى مع حسن الظن بالله، وفي الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله -يا رسول الله- وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.

فهذا الصحابي قد اجتمع في قلبه الخوف والرجاء، وهو حسن ظن بالله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني