الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف يكفر من شك في الله والشك لاإرادي؟ وهل يعاقب الله من لم يستطع التصديق؟‏

السؤال

قرأت هُنا في إحدى‎ ‎الفتاوى، أن من ‏تنتابه شكوك عن الله، والإسلام، أو ما ‏جاء به الأنبياء فهو مرتد،‏ فأرجو توضيح هذا: كيف يعاقب الإنسان على ‏ما ليس بيده؟ فالشك لا إرادي، ‏إضافة إلى ذلك كيف يمكن أن يهبنا ‏الله عقولًا ذات تفكير محدود، ثم ‏يعاقبنا إذا لم نستطع التصديق؟ وهل يمكن أن يعاقب الله، ويخلد ‏إنسانًا في النار؛ لأنه لم يستطع التصديق؟‏ أرجو عدم تعديل السؤال بما يحيل ‏معناه لمعنى مختلف، فقد بعثت لكم ‏سابقًا، وتم تغيير السؤال جذريًا حتى ‏تغير الحكم معه؛ لقد شككت في أنه ‏السؤال الذي كتبته، فقد قرأت ما لم ‏أكتب، ‏وشكرًا.‏

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فحكم السائلة على الشك بأنه لا إرادي، حكم خاطئ! فالذي يصح وصفه بذلك إنما هو الوسوسة، والخواطر الشيطانية، فهي تهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، ثم بعد ذلك يختلف الناس بحسب تلقيهم لهذه الوساوس، فمن كرهها، ونفاها، ونفر منها، لم تضره، ودلَّ رده إياها على إيمانه.

وأما الشك فهو نقيض اليقين، وهو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث، ولا عدم وقوعه.

والعبد لا يكون مؤمنًا إذا وقع في مثل هذا الشك، فلا بد لحصول الإيمان أن يكون العبد مصدقًا تصديقًا جازمًا بمدلول شهادة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {الحجرات:15} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، إلا دخل الجنة. رواه مسلم. وفي حديث آخر عند مسلم أيضًا: مستيقنًا بها قلبه. فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنًا بها قلبه، غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، وهذا أمر في غاية الوضوح؛ فأصل الإيمان لا يتحقق إلا بالتصديق الجازم، ومن لم يحقق الإيمان استحق العذاب، بل الخلود فيه؛ لتقصيره في أوجب الواجبات، وتضييعه لأصل الأصول.

وهنا ننبه على أن الإنسان قد يطرأ في نفسه نوع وسوسة يظنه شكًّا، ولكنه ليس كذلك، بل يكون في داخله مصدقًا مؤمنًا، وعلامة ذلك كراهته لهذه الخواطر، وخوفه ونفوره منها.

وأما من تابع الوسوسة حتى أشربها قلبه، وبلغ معها درجة الشك، والارتياب فهذا كسبه، وعمله، وتقصيره.

والشك نوع من أنواع الكفر، وسببه في الأصل هو الإعراض عن النظر في آيات الله الكونية، والمتلوة؛ فإن الشاك لو بحث عن الحق بدلائله ـ وهذا واجب عليه ـ لظفر به، قال ابن القيم في مدارج السالكين: الكفر الأكبر خمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق... أما كفر الشك فإنه لا يجزم بصدق الرسول ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها، ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها، ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة للصدق، ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار. اهـ.

وقال محمد أنور شاه الكشميري في إكفار الملحدين في ضروريات الدين: عدم التصديق له مراتب أربع، فيحصل للكفر أيضًا أقسام أربعة:

الأول: كفر الجهل، وهو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا فيما علم مجيئه به مع العلم - أي في زعمه الباطل - بكونه عليه السلام كاذبًا في دعواه.

والثاني: كفر الجحود والعناد، وهو تكذيبه، مع العلم بكونه صادقًا في دعواه، وهو كفر أهل الكتاب؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا واستقنتها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وكفر إبليس من هذا القبيل.

والثالث: كفر الشك، كما كان لأكثر المنافقين.

والرابع: كفر التأويل، وهو أن يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على غير محمله، أو على التقية، ومراعاة المصالح، ونحو ذلك. اهـ.

وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: اتفقوا ... أو شك في التوحيد، أو في النبوة، أو في محمد صلى الله عليه وسلم، أو في حرف مما أتى به عليه السلام، أو في شريعة أتى بها عليه السلام مما نقل عنه نقلَ كافةٍ، فإن من جحد شيئًا مما ذكرنا، أو شك في شيء منه، ومات على ذلك، فإنه كافر، مشرك، مخلد في النار أبدًا. اهـ.

وقد نقل الإجماع على ذلك أيضًا القاضي عياض في عدة مواضع من كتاب الشفا.

وأما قول السائلة: كيف يمكن أن يهبنا الله عقولًا ذات تفكير محدود ثم يعاقبنا إذا لم نستطع التصديق) فمبناه على مقدمة باطلة؛ فإن عقولنا مهيأة تمامًا لاستقبال مسائل الإيمان، واعتقاد صحتها، وسلامتها من كل معارض؛ لكون ذلك حقًّا في ذاته، ولكونه موافقًا للفطر السوية، ولكونه مدعومًا بالدلائل والبراهين الواضحة التي تقبلها العقول، وتسلم لها! ولذلك نجد في القرآن عند ذكر مسائل الاعتقاد ودلائلها تعقيبًا بالتنبيه على أن ذلك هو مقتضى العقل، وأن الانصراف عنه مما يطول منه العجب! وتأملي من ذلك خاتمة كل فقرة من قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) } [المؤمنون] .
وأما قول السائلة: (هل يمكن أن يعاقب الله ويخلد إنسانًا لأنه لم يستطع التصديق) فيحسن أن تعاد صياغته فنقول: هل يمكن أن يخلد الله إنسانًا في النار لأنه كفر به؟ والجواب: نعم؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، وعدم التصديق كفر بلا ريب، قال تعالى في بيان خصال أهل الكفر التي أوجبت لهم النار: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى. وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى. أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. [القيامة: 31 -35].
قال القرطبي: قوله تعالى: (أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى): تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة، كما روي أنها نزلت في أبي جهل، الجاهل بربه، فقال: (فلا صدق ولا صلى. ولكن كذب وتولى) أي: لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة، فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربع. اهـ.

وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 219898.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني