الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

موانع تكفير المعين

السؤال

لقد انتشرت في الأشهر الأخيرة فتنة تكفير العاذر بالجهل في الشرك الأكبر بقيادة الشيخ الحازمي، وانتشر هذا القول الذي لم يسبقه إليه أحد بين الجهلاء، ومرضى النفوس من العرب والعجم انتشار النار في الهشيم, حتى أصبح الغلو في التكفير عندهم أسهل من التنفس. هل من رد على هذا القول؟
وجزاكم الله خيرا, وبارك الله فيكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأهل العلم وإن عدوا الجهل عذرًا مانعًا من الحكم بتكفير المعين في الجملة، إلا إنهم يتفاوتون في ضبط المسائل التي يعذر فيها بالجهل. وراجع في ذلك الفتويين: 123136، 156483، وما أحيل عليه فيهما.
فمن المستغرب أن ينفي أحد هذا الخلاف، ويدعي الإجماع على عدم العذر، ثم يتمادى به الشطط حتى ينفي عذر العاذر أو المتوقف! ثم تأتي ثالثة الأثافي فيدعي الإجماع على كفرهما جميعا؛ عملا بقاعدة تكفير من لم يكفر الكافر! والصواب: أن محل هذه القاعدة هو الكفر المعلوم من الدين بالضرورة، فلا يصح ذلك في حال المسلم الذي يقع في عمل من أعمال الكفر بجهل أو شبهة، دون إقامة الحجة عليه، كما نبهنا عليه في الفتويين: 98395، 53835.

فحتى أهل العلم الذي يفهم من بعض كلامهم أنهم لا يعذرون بالجهل في صرف العبادة المحضة لغير الله تعالى، كما سبقت الإشارة إليه في الفتوى رقم: 230206 -فحتى هؤلاء لا يسوون بين من وقع في الشرك جهلًا، وبين من توقف في كفره لمكان الشبهة! كما جاء في إحدى فتاوى اللجنة الدائمة بعد تقرير هذه المسألة: وبذا يعلم أنه لا يجوز لطائفة الموحدين الذين يعتقدون كفر عباد القبور أن يكفروا إخوانهم الموحدين الذين توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة؛ لأن توقفهم عن تكفيرهم له شبهة، وهي: اعتقادهم أنه لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفيرهم بخلاف من لا شبهة في كفره، كاليهود، والنصارى، والشيوعيين، وأشباههم. اهـ.

وعلى أية حال؛ فالصواب: أنه لا يصح بناء مسألة العذر على أصل تقسيم المسائل إلى: مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها؛ فإن هذا التقسيم ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة، ونحوهم من أئمة البدعة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 132935.
وقد عقد الشيخ/ السعدي في آخر فتاويه مناظرة في تكفير الشخص المعين بصدور ما يوجب الكفر عنه، ليبين صواب القول بالعذر وخطأ نفيه، فكان مما قال في جواب العاذر للنافي: ما ذكرت من دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك وكفر مخلد في النار، فهذا لا شك فيه ولا ريب، وما ذكرته من مساواة جهلة اليهود والنصارى وجميع الكفار الذين لا يؤمنون بالرسول ولا يصدقونه، بجهلة من يؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ويعتقد صدق كل ما قاله في كل شيء، ويلتزم طاعته، ثم يقع منه دعاء لغير الله، وشرك به، وهو لا يدري، ولا يشعر أنه من الشرك، بل يحسبه تعظيمًا لذلك المدعو مأمورًا به، ما ذكرته من مساواة بين هذا وبين ذاك فإنه خطأ واضح، دل الكتاب، والسنة, وإجماع الصحابة, والتابعين لهم بإحسان على التفريق بين الأمرين، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة كفر جهال اليهود، والنصارى, وجميع أصناف الكفار، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، وأما من كان مؤمنا بالرسول, ومصدقا له في كل ما قاله، وملتزما لدينه، ثم وقع منه خطأ في الاعتقاد أو القول والعمل جهلًا أو تقليدًا أو تأويلا فإن الله يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} عفي له عن أمته الخطأ, والنسيان, وما استكرهوا عليه. فالمقالة والاعتقاد وإن كان كفرًا ويقال: من اعتقدها أو عمل بها فهو كافر، لكن قد يقع ويوجد مانع في بعض الأشخاص يمنع من تكفيره لعدم علمه أنه كفر وشرك، فيوجب لنا التوقف في إطلاق الكفر على عينه، وإن كنا لا نشك أن المقالة كفر؛ لوجود ذلك المانع المذكور، وعلى هذا عمل الصحابة والتابعين في البدع التي ظهرت في زمانهم، كبدعة الخوارج، والمعتزلة, والقدرية, ونحوهم، مشتملة على رد النصوص من الكتاب، والسنة, وتكذيبها, وتحريفها، وذلك كفر، ولكنهم امتنعوا من تكفيرهم بأعيانهم لوجود التأويل، فلا فرق بين تكذيب الخوارج لنصوص الشفاعة و ... و ... وبين تأويل من أجاز دعاء غير الله، والاستعانة به. وقد صرح شيخ الإسلام ـ يعني: ابن تيمية ـ في كثير من كتبه، كرده على البكري، والإخنائي، وغيرهما، حين ذكر وقوع مثل هذه الأمور من بعض المشايخ المشار إليهم، فذكر أنه لا يمكن تكفيرهم؛ لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة، حتى تبين لهم الحجة التي يكفر منكرها! وكلامه معروف مشهور، فاتضح لنا من ذلك أن من وقعت منه مثل هذه الأمور جهلا وتقليدا أو تأويلا من غير عناد أنه لا يحكم بتكفيره بعينه، وإن كانت هذه الأمور الواقعة منه كفرا؛ للمانع المذكور. اهـ. من (الفتاوى السعدية ص 601 : 603).

ومن مشهور ما قاله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفر ويقاتل. اهـ.
ولا يخفى على الأخ السائل أن المسألة محل سؤاله يحتاج تحريرها إلى عرض مستفيض للأدلة، والنقول الثابتة عن أهل العلم فيها، وبيان فقهها، ومحملها، وهذا لا يسعنا في مجال الفتوى الذي نحن فيه، ولكن نحيلك إلى فصل (موانع التكفير) من الرسالة العلمية للدكتور/ محمد بن عبد الله الوهيبي، وهي بعنوان: (نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف) تجد المانع الأول منها هو: الجهل (من ص 225 : إلى ص 293) وقال في خلاصته (ص289): من خلال عرض أدلة الفريقين يتبين لنا بشكل جلي أن أدلة العذر بالجهل عامة، وشاملة للأصول المجمع عليها، للدلالة الصريحة من نصوص السنة على ذلك، مثل حديث الرجل من بني إسرائيل، وحديث صلة بن زفر عن حذيفة، وحديث ذات أنواط، وحديث سجود معاذ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الذي فهمه أئمة أهل السنة، وقرروه في مصنفاتهم، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام محمد بن عبد الوهاب، وأئمة الدعوة من بعده، وخلاصة مذهبهم - باختصار -: (أن حديث العهد بإسلام، أو من نشأ ببادية بعيدة، من في حكمهم مثل أن ينشأ في بيئة ينتشر فيها الشرك، ويقل فيها الدعاة إلى التوحيد، يعذر بجهل الأحكام الظاهرة المتواترة من الواجبات والمحرمات، وكذلك في أصول العقائد، ولا فرق، أما من أنكر شيئا مما ذكر في دار إسلام وعلم، فإنه يكفر بمجرد ذلك، ولا يكفر بإنكاره مسائل خفية، أو شيئا من الأمور المتواترة التي لا تعرف إلا عند الخاصة). أما من يذهب إلى أن أصول العقائد، أو مسائل أصول الدين المجمع عليها من الأحكام والعقائد، أو مسألة الوقوع في الشرك خاصة، لا يعذر فيها، فليس معه أدلة من الكتاب أو السنة إلا أن يكون دليلا عاما غير صريح الدلالة، أو دليلا ضعيفا من جهة سنده، أما ما نسبوه إلى بعض العلماء من القول بذلك، فيجاب عنه بجوابين: أحدهما: أن الحجة تكون بالكتاب والسنة والإجماع، أما أقوال العلماء فيحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية. الثاني: أن هذه الأقوال المنسوبة إلى العلماء، إما آراء شاذة، أو أقوال محتملة، أو نسبة غير دقيقة، مثل ما نسبوه إلى شيخ الإسلام، وإلى الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- كما بينا سابقا. اهـ.

ونحيل السائل كذلك على كتاب: (إشكالية الإعذار بالجهل في البحث العقدي) للباحث/ سلطان العميري، فهو مفيد في بابه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني