الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مدى حجية أقوال الصحابة والتابعين والترجيح بينها

السؤال

إذا كانت هناك مسألة فقهية لم يصح فيها مرفوع البتة، ولكن ثبت في فعل لأحد الخلفاء الراشدين ولم يعرف له مخالف من غيره من الصحابة بتاتا، وإنما خالفه بعض التابعين قولا منهم أو عملا ففي هذه الحالة هل أقوال التابعين حجة؟ وهل يكون فعل الخليفة الراشد هو الحجة ويتعين العمل به؟ وهل قول التابعي ليس بحجة في هذه الحالة؟ أم نرد فعل الخليفة الصحابي بقول التابعي ويكون هو الحجة ولا نعمل بعمل الصحابي بل بقول التابعي ما هو الصحيح في هذه المسألة؟.
جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد اختلف أهل العلم في حجية فعل الصحابي، وفي اعتباره مذهبا له، قال ابن مفلح في (أصول الفقه): قال بعض أصحابنا: فعل الصحابي هل هو مذهب له؟ فيه وجهان، وفي الاحتجاج به نظر، واحتج القاضي في الجامع الكبير في قضاء المغمى عليه الصلاة بفعل عمار وغيره، وقال: فعل الصحابة إِذا خرج مخرج القربة يقتضي الوجوب، كفعله عليه السلام، وقد قال قوم: لو تصور اتفاق أهل الإِجماع على عمل لا قول منهم فيه، كان كفعل الرسول؛ لثبوت العصمة، واختاره أبو المعالي خلافاً لابن الباقلاني. قال بعض أصحابنا: الأول قول الجمهور، حتى أحالوا الخطأ منهم فيه إِذا لم يشترطوا انقراض العصر. اهـ.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في لقاءات الباب المفتوح: إذا ورد في مسألة فعل صحابي فقط، فهل يؤخذ بفعل الصحابي على أنه دليل يستدل به؟ مثال ذلك: قضية قضاء عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ بعض الصلوات التي فاتته بسبب الإغماء؟ فأجاب رحمه الله: هذا ينبني على الخلاف، هل فعل الصحابي وقوله حجة أم لا؟ والصحيح أن قول فقهاء الصحابة حجة، لكن بشرطين: الشرط الأول: ألا يخالف النص، الشرط الثاني: ألا يخالف صحابياً آخر، فإن خالف النص فمردود غير مقبول، وإن خالف قول صحابي آخر وجب طلب المرجح، فأيهما كان أرجح كان قوله أولى. اهـ.
وعلى ذلك ففعل الصحابي الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة لا يعارَض بأقوال التابعين؛ لكونه حجة شرعية، ويتأكد هذا على القول بأن الإجماع السكوتي حجة، وأن الفعل كالقول في حصول الإجماع، قال المرداوي في (التحبير) عند شرحه لتعريف الإجماع (اتفاق مجتهدي الأمة في عصر على أمر ولو فعلا ..) قال: قوله: {ولو فعلا} إنما أبرزته وإن كان داخلا في قوله: {على أمر} ؛ للإيضاح والبيان والتأكيد، وقد اختلف العلماء فيما إذا اتفقوا على فعل فعلوه، أو فعل البعض، وسكت البعض مع علمهم، هل يكون إجماعا أم لا؟ والأرجح أن ينعقد به الإجماع لعصمة الأمة، فيكون كالقول المجمع عليه، وكفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. اختاره أبو الخطاب من أصحابنا، وقطع به أبو إسحاق الشيرازي، واختاره الغزالي في "المنخول" وصرح به أبو الحسين البصري في "المعتمد"، وتبعه في "المحصول". قال بعض أصحابنا: هو قول الجمهور، حتى أحالوا الخطأ منهم إذا لم يشترطوا انقراض العصر، وقيل: لا ينعقد الإجماع به، ونقله أبو المعالي عن ابن الباقلاني، بل كون ذلك في وقت واحد ربما لا يتصور. اهـ.
ثم إذا كان الصحابي من الخلفاء الراشدين، كان الاحتجاج بفعله الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة أوضح وآكد، فهم مقدمون على سائر الصحابة، كما أن الصحابة مقدمون على من بعدهم، قال البهوتي في (المنح الشافيات بشرح مفردات الإمام أحمد): روى أبو داود عن الإمام أحمد قوله: ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة أو عن التابعين. فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر، وإذا لم أجد فعن التابعين وعن تابعي التابعين. اهـ.
وقال العلائي في (إجمال الإصابة) تعليقا على حديث "وسنة الخلفاء الراشدين" قال: إذا كان المخاطب بهذه الأوامر الصحابة، كان فيها أنه إذا تعارضت أقوال الصحابة يكون الرجوع إلى قول أحد الخلفاء الأربعة دون غيرهم، وقد تقدم نص الإمام الشافعي على ذلك. اهـ.
وقال ابن رجب في (جامع العلوم والحكم): لو قال بعض الخلفاء الأربعة قولا، ولم يخالفه منهم أحد، بل خالفه غيره من الصحابة، فهل يقدم قوله على قول غيره؟ فيه قولان أيضا للعلماء، والمنصوص عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة، وكذا ذكره الخطابي وغيره، وكلام أكثر السلف يدل على ذلك. اهـ.
ومثل هذا لا يعارض بأقوال التابعين، وإنما يحتج بعض أهل العلم بأقوالهم في ما ليس للرأي فيه مجال كما أن بعضهم لا يرى في أقوال التابعين حجة مطلقا، قال ابن مفلح في (أصول الفقه): مذهب التابعي ليس حجة عند أحمد والعلماء؛ للتسلسل، وذكر بعض الحنفية عنه روايتين. اهـ.
وقال الزركشي في (البحر المحيط): إن قال التابعي قولا لا مجال للقياس فيه لم يلتحق بالصحابي عندنا، خلافا للسمعاني كما سبق، قال صاحب الغاية من الحنابلة: من قام من نوم الليل فغمس يده في إناء قبل أن يغسلها ذهب الحسن البصري [إلى] زوال طهوريته، وهو يخالف القياس، والتابعي إذا قال مثل ذلك كان حجة، لأن الظاهر أنه قال توقيفا عن الصحابة، أو عن نص ثبت عنده، قال صاحب المسودة: وظاهر كلام أحمد وأصحابنا أنه لا اعتبار بذلك، بل يجعل كمجتهداته. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 121996.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني