الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القدر بين المحو والإثبات وعدمه

السؤال

هل اختيارنا للأخذ بالأسباب، أو عدمه، كلاهما قدران مكتوبان، ولكل منهما نتيجة، أم إن القضاء واحد محسوم كمثل المذاكرة، أو التكاسل عنها، والنتيجة محققة، أم النتيجة مكتوبة سابقا؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فكل ما هو كائن إلى يوم القيامة مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ، لا يبدل، ولا يغير، ولا يمحى، وإنما الذي يقبل التغيير، والمحو، والإثبات، هو ما في صحف الملائكة، كما قال جل وعلا: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {الرعد:39}. وكل من التغيير، والإثبات في صحف الملائكة، مكتوب في اللوح المحفوظ تفصيله، ونهايته.
وقد سئل شيخ الإسلام سؤالا طويلا، وفيه: هل شرع في الدعاء أن يقول: اللهم إن كنت كتبتني كذا، فامحني، واكتبني كذا، فإنك قلت: يمحو الله ما يشاء ويثبت؟ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟

فكان مما أجاب به رحمه الله: والجواب المحقق أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه، زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص، نقص من ذلك المكتوب... وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا، فامحني، واكتبني سعيدا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. والله سبحانه عالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له، وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها، وبعد كونها؛ فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف، ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ: فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
وقال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في شرح العقيدة الواسطية: هناك أنواع من التقدير الكتابي، وأصله في أم الكتاب في اللوح المحفوظ، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات، والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء). (قدر مقادير الخلائق) يعني كتبها. هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ، وهو الذي جاء في قوله: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. يعني الكتاب الأصل الذي لا يتغير، ولا يتبدل، وهو اللوح المحفوظ. هذه الكتابة العامة السابقة للخلق، وهناك كتابات تفصيلية.

هذه الكتابات التفصيلية، تفصيلٌ لما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، فمنها ما ذكره شيخ الإسلام هنا:

- قال في الكتابة العامة (كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ) هذه الكتابة الأصل.

- ثم ذكر نوعا آخر من الكتابة قال: (وَإِذَا خَلَقَ) جل وعلا (جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ) وفي الحديث أيضا في الرواية: (فيؤمر بِكَتْبِ أربع كلمات) (فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ).

وهذه ذَكَرْ شيخ الإسلام أنه قبل نفخ الروح؛ لقوله في الحديث: ( ثم يؤمر بنفخ الروح). هذه كتابة خاصة متعلقة بهذا الإنسان الذي ستُنْفَخُ فيه الروح، وهذا الكَتِبْ هو تفصيل لما في اللوح المحفوظ، هو مكتوب في اللوح المحفوظ، ويؤمرون بذلك، فيكون كتابة تفصيلية في حق هذا المعين.

- كذلك هناك التقدير السنوي الذي يكون في ليلة القدر، قال جل وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ? سميت ليلة القدر لأنها يُقَدَّرُ فيها ما يحصل في تلك السنة، (يُقدَّر) بمعنى يُكتب، أما التقدير الأصلي فهو في اللوح المحفوظ، وهي التي في قوله تعالى في أول سورة الدخان: حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ حَكِيمٍ؟ وهذا الفَرْقْ، يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ. يعني يُفْصَل من اللوح المحفوظ، إلى الصحف التي بأيدي الملائكة، كما هو أحد وجهي التفسير، فهذه كتابة سنوية.

هاتان الكتابتان: العُمُرِيَة، والسنوية هذه يكون فيها التعليق. يعني يقال فيها: (إن فعل العبد كذا، سيكون القدر كذا؛ وإن فعل العبد كذا، يكون القدر كذا) فإن وصل رَحِمَهْ زِيْدَ في عمره، إن وصل رَحِمَهُ وُسِّعَ له في رزقه. فما يكون فيه المحو، والإثبات هو في هذه الصحف التي فيها التقدير السنوي، أو العمري الذي بأيدي الملائكة، وهذه تكون معلقة، كما قال ابن عباس في تفسير آية الرعد، وهي قوله جل وعلا: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.

- فهناك أشياء من القدر تقبل المحو والإثبات.

- وهناك أشياء من الكتابة لا تقبل المحو والإثبات، بل هي آجال لا تقبل التغيير، أو أشياء لا تقبل التغير، وذلك ما في اللوح المحفوظ. أما ما في صحف الملائكة، فإنه يقبل التغيير، وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، يعني مكتوب التفصيل والنهاية، لكنه لا يقبل المحو والإثبات، أما ما في صحف الملائكة، فإنه يقبل المحو والإثبات كما قال جل وعلا: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. وهذا الوجه، هو الذي قاله ابن عباس -رضي الله عنه- وهو وجهٌ ظاهر البيان والصحة؛ لأنه موافق للأدلة، كما قال جل وعلا: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ. وقال عليه الصلاة والسلام: (من سرَّهُ أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأُ له في أثره؛ فليصل رَحِمَهُ) فكان وصلُ الرحم سببا في زيادة الرزق، وسبباً في نسأ الأثر في زيادة العمر و(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) هذا كله بما في صحف الملائكة، وما يكون فيها. انتهى.

فاللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء، والله عز وجل قدر الأمور بأسبابها، فهذا قدر له النجاح، والتفوق؛ لاجتهاده وأخذه بالأسباب، وهذا قدر له الرسوب؛ لإهماله وتفريطه، وهذا قدر له الأولاد والذرية إذا تزوج، وهذا قدر له العافية إذا راجع الطبيب وأخذ الدواء، فالنتائج وأسبابها كل ذلك مقدر، والعبد يفعل الأسباب باختياره، ولهذا يجازى ويعاقب، وليس له أن يمتنع عن فعل الأسباب بحجة أن النتائج مقدرة، فإنه لا يدري ما الذي قدر له، ولو صح الامتناع عن فعل الأسباب، فليتوقف عن الأكل، والشرب، والجماع، وينتظر الصحة، والعافية، والولد بحجة أن ذلك مقدر!

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني