الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في الإكراه على قول أو فعل محرم

السؤال

هل إذا خيرني شخص بين أن أعصي الله وبين أن يقتلني, والمعصية صغيرة وليست مخرجة من الملة كنزع الحجاب أو التبرج أو سماع الموسيقى.. فاخترت أن يقتلني، أعتبر في هذه الحالة شهيدة؟ وهل أكون من أفضل الشهداء؟.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد اختلف العلماء في صحة الإكراه على الأفعال، فذهب أكثرهم إلى أن من أكره على فعل محرم فله الفعل ولا إثم عليه، وذهب بعضهم إلى أن الإكراه إنما يتعلق بالأقوال فحسب، قال القرطبي: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْقَوْلِ، وَأَمَّا فِي الْفِعْلِ: فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يُكْرَهُوا عَلَى السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الرِّبَا، يُرْوَى هَذَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُحْنُونٍ مِنْ عُلَمَائِنَا... وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِكْرَاهُ فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ سَوَاءٌ إِذَا أَسَرَّ الْإِيمَانَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَكْحُولٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَنَّ الْإِثْمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ. انتهى.

فعلى القول بأن الإكراه على الفعل غير معتبر، فالصبر في الحال المذكورة واجب، والصابر إن قتل والحال هذه أجره موفور، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأما على القول الثاني وهو الصحيح الذي رجحه القرطبي وغيره وهو أن من أكره على فعل محرم لم يكن آثما بفعله، فقد نص جمع من الفقهاء على أنه إن أكره على شرب الخمر ونحوه كالأمثلة المذكورة في السؤال، فالواجب عليه أن يفعل ما أكره عليه صيانة لمهجته، فإن حفظ النفس مقدم على ترك هذه المحرمات، والشرع قد أتى بتحصيل المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها، وإذا تعارضت مصلحتان وجب تحصيل أكبرهما، وإذا تعارضت مفسدتان وجب درء أكبرهما، قال أبو محمد بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ في قواعد الأحكام: وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ غُصَّ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُ بِهِ الْغُصَّةَ سِوَى الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ حِفْظَ الْحَيَاةِ أَعْظَمُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنْ رِعَايَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ. انتهى.

وفصل ابن عادل الحنبلي ـ رحمه الله ـ في اللباب هذه المسألة تفصيلا حسنا فقال: الإكراه له مراتب:

أحدها: أن يجب الفعل المكره عليه، كما لو أكره على شرب الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا، يجب الأكل، وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل، وليس في هذا الأكل ضررٌ على حيوان، ولا إهانةٌ لحقِّ الله، فوجب أن يجب، لقوله تعالى: وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة {البقرة: 195}.

المرتبة الثانية: أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجبان كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر، فههنا يباح له ذلك، ولكنه لا يجب.

المرتبة الثالثة: أنه لا يجب ولا يباح، بل يحرمن كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية. انتهى.

وقال في بيان المعاني: أما من أكره على شرب الخمر أو أكل لحم الميتة أو الخنزير ومما هو دون المكفرات كالربى والقمار، فليس له أن يأخذ بالعزيمة، بل يجب عليه الأخذ بالرخصة، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة، فهو آثم. انتهى.

وبه يتبين أن الواجب في الأمثلة المذكورة في السؤال على هذا القول هو فعل ما أكره عليه الشخص رعاية لأكبر المصلحتين ودرءا لأكبر المفسدتين، مع التنبيه على أن نزع الحجاب من كبائر الذنوب لا من صغائرها.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني