الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أضواء على قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ....

السؤال

نشكركم على مجهودكم الرائع نفع الله بكم الإسلام والمسلمين: عندي استفساران، لأنه ربما حدث تداخل في المعلومات عندي: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ـ هنا أمر الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالتهجد، وبذلك يكون الأمر للرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نحن فنافلة علينا؟ ولو كان الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما مدى توافقه مع هذا الحديث: وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه.. قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا؟ مسلم، لا أقصد التشكيك ولكن لتثبت في عقلي بالطريقة المثالية.
الاستفسار الثاني: في الحديث أن أول من يأخذ كتابه بيمينه هو عمر بن الخطاب, وقد سمعت من أحد المشايخ الكبار في علم الحديث أن هذا الحديث باطل؟ فقلت في نفسي إن عمر من المحتمل أن يكون من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.
وشكرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الأمر في الآية واضح في قوله تعالى: فتهجد ـ ومن المعلوم أن الأمر في الأصل للوجوب إن لم يوجد ما يصرفه عن الوجوب، وقد وضح ذلك ابن كثير وبين معنى كلمة نافلة، فقال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ـ أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: صلاة الليل ـ ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد: ما كان بعد نوم، قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي، وغير واحد، وهو المعروف في لغة العرب، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتهجد بعد نومه، عن ابن عباس، وعائشة، وغير واحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كما هو مبسوط في موضعه، ولله الحمد والمنة، وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء، ويحمل على ما بعد النوم، واختلف في معنى قوله: نَافِلَةً لَكَ ـ فقيل: معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة، رواه العوفي عن ابن عباس، وهو أحد قولي العلماء، وأحد قولي الشافعي ـ رحمه الله ـ واختاره ابن جرير، وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه، قاله مجاهد، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ وقوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ـ أي: افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى، قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم. انتهى.

وقال السعدي في تفسيره: وقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ـ أي: صل به في سائر أوقاته: نَافِلَةً لَكَ ـ أي: لتكون صلاة الليل زيادة لك في علو القدر، ورفع الدرجات، بخلاف غيرك، فإنها تكون كفارة لسيئاته، ويحتمل أن يكون المعنى: أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين، بخلاف صلاة الليل، فإنها فرض عليك بالخصوص، ولكرامتك على الله، أن جعل وظيفتك أكثر من غيرك، وليكثر ثوابك، وتنال بذلك المقام المحمود، وهو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، مقام الشفاعة العظمى، حين يتشفع الخلائق بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكلهم يعتذر ويتأخر عنها، حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ليرحمهم الله من هول الموقف وكربه، فيشفع عند ربه فيشفعه، ويقيمه مقامًا يغبطه به الأولون والآخرون، وتكون له المنة على جميع الخلق. انتهى.

وقد نص جمع من أهل العلم على وجوب التهجد عليه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في البهجة الوردية: وَخُصَّ بِوُجُوبِ نَفْلِ لَيْلٍ وَإِنْ قَلَّ ـ وَهُوَ التَّهَجُّدُ ـ لقوله تعالى: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك ـ وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّهِ كَمَا نُسِخَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَوْ الصَّحِيحُ.. انتهى.

وأما عن كلام عائشة: فلا يفهم منه بالضرورة أنها لا ترى وجوب القيام، ولكنها أشفقت عليه من طول القيام الذي يحصل به تورم الرجلين، فقد قام صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل على وجه الإطالة حتى تورمت قدماه أي انتفخت من طول القيام، وفي رواية البخاري: كان يصلي حتى ترم أو تنتفخ قدماه.

وفي أخرى له: إن كان ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه.

وفيه أيضا: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.

وفي حديث أبي هريرة عند النسائي: حتى تزلع، يعني تشقق قدماه..

وراجع في عدم صحة حديث عمر الفتوى رقم: 73510.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني