الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التوفيق بين ما ذكره الله من عدم هداية من كفر بعد إسلامه وبين إسلام المرتدين

السؤال

كيف نوفّق بين قول الله تعالى: يزيد الكفار بالكفر، ويزيدهم ضلالًا مع ضلالهم، وأنهم لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، وأن الله قد قال: "ومن يضلل الله فلا هادي الله"، وفي المقابل نرى كثيرًا من الكافرين أو الضالين، عادوا للإيمان بعد رحلة طويلة من الكفر والضلال، فكيف يخبر الله بأن من يكفر بآيات الله، لن يهديه وسيضله، ونحن نرى الكثير منهم قد عادوا بعد أن ضلوا، مثل (انتوني فلو) أحد أكبر الملحدين في القرن السابق، ولكنه قد عاد للإيمان في آخر حياته، فكيف نحلّ الإشكال؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فهذا الإشكال مطروح من قديم، قال أبو الليث السمرقندي في "بحر العلوم" عند قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قال: فإن قيل: في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه، لا يهديه الله، ومن كان ظالمًا، لا يهديه الله، وقد رأينا كثيرًا من المرتدين، أسلموا، وهداهم الله، وكثيرًا من الظالمين، تابوا عن الظلم.

قيل له: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم، وظلمهم، ولا يُقبلون إلى الإسلام، فأما إذا جاهدوا، وقصدوا الرجوع، وفقهم الله لذلك؛ لقوله: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}. اهـ. وتبعه على ذلك القرطبي في تفسيره، وإسماعيل حقي في روح البيان، ولفظه: فالجواب أن معناه: لا يهديهم ما داموا مقيمين على الرغبة في الكفر، وفي الثبات عليه، ولا يقبلون على الإسلام، وأما إذا تحروا إصابة الحق، والاهتداء بالأدلة المنصوبة؛ فحينئذ يهديهم الله بخلق الاهتداء. اهـ.

وذكر ابن عطية هذا المعنى، وزاد عليه احتمالًا آخر، وهو حمله على من ختم الله على قلبه، وعلم أنه يموت على هذه الصفة المانعة من الهداية، فقال في المحرر الوجيز: قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} عموم معناه الخصوص، فيمن حتم كفره، وموافاته عليه. ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله، فتجيء الآية عامة تامّة العموم. اهـ.

ومما ورد في السنة مؤكدًا هذه الحقيقة المشاهدة، من أن المرء قد يعيش على الكفر ثم يموت على الإيمان، والعكس، قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها. رواه البخاري، ومسلم.

وهنا ننبه على أمر مهم، وهو أن المثال الذي ذكرته السائلة، ليس صحيحًا؛ فإن (أنتوني فلو) لم يسلم، بل حتى لم يرجع للمسيحية التي ولد عليها، ولا لأي ملة إبراهيمية، وغاية الأمر أنه رجع عن فكرة إنكار وجود الله، إلى الإقرار بوجوده، مع النص على أن الإله الذي يتحدث عنه، ليس إله المسيحية، وأنه بعيد كل البعد عن إله الإسلام، فكلاهما لا يجسّدان عنده سوى ملامح الطاغية الشرقي، هذا مع نفيه للإيمان بالحياة الأخرى بعد الموت، ناهيك عن الإيمان بالرسل، والرسالات السماوية، فهو في الحقيقة انتقل من مذهب لاديني، إلى غيره من المذاهب اللادينية، وهو المذهب الربوبي، الذي يعتقد بوجود إله خالق للكون، ولكنه لا يتدخل في الشؤون الإنسانية، فلا يرسل رسلًا، ولا ينزل كتبًا، ولا يجمع الناس في يوم آخر ليجازيهم على أعمالهم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني